ما يحدث في سوناطراك ليت مثله يحدث في المؤسسات الدستورية للدولة! هذه المؤسسات التي تنام وتشخر والبلاد تحدث فيها مثل هذه الكوارث..! سوء تسيير سوناطراك هو الجزء الظاهر من جبل الثلج العائم في محيط الفساد! في طفولتي تعلمت من جدتي رحمها الله مقولة »إذا اختلف السراق بينهم ظهر المال المسروق«! فهل المال المسروق من سوناطراك ظهر بعد خلاف بين السراق؟! وهل الأمر يتعلق فعلا بخلاف بين السراق فقط أم أنه خلاف يمتد إلى أبعد من ذلك ليكون خلافا بين رجال السياسة المفسدين الذين أصبحوا يتصارعون بملفات الفساد بدل الصراع بالسياسة عبر المشاريع السياسية التي تنهض بالبلاد؟! لكن السؤال المحير هو لماذا إذًا اختلف هؤلاء السراق وكشفوا أنفسهم بهذه الطريقة العجيبة؟! وقد كان بإمكانهم غلق الملف بأية طريقة والإبقاء على بئر سوناطراك النازف بغطائه؟! أحد المواطنين عندما قلت مقولة جدتي التي ترى أن المال المسروق يظهر عندما يختلف السراق بينهم قال لي ”وما الفائدة من اختلاف السراق هنا وظهور المال المسروق هناك خلف البحر؟! فالعبرة - حسبه - ليس في معرفة السراق، بل العبرة بعودة المال المسروق إلى خزينة الدولة؟! وهل يمكن أن يصدق عاقل أن المال المسروق من سوناطراك يمكن أن يعود من سويسرا وأمريكا والولايات المتحدة إلى خزينة الدولة؟! هذا أمر لا يصدق أبدا! والدليل على ذلك أن كل الملفات السابقة التي انكشفت نتيجة اختلاف السراق وظهر فيها المال المسروق لم يعد المال إلى خزينة الدولة أبدا! وأمامكم المثل في موضوع ملف الخليفة.. فقد أخذت فرنسا حقها من المال المسروق في ملف سراق الخليفة ولم تأخذ الجزائر أي شيء..! حتى بريطانيا لا تريد تسليم عبد المؤمن إلا إذا أقرت الجزائر بعدم المطالبة بإعادة بعض أمواله التي هرّبها إلى لندن! وقد يكون الأمر نفسه حدث مع عاشور عبد الرحمان الذي عاد من المغرب ولكن بدون عودة أمواله المهربة من هناك! بل حتى الأموال التي بعثرت في الجزائر لم تعد إلى خزينة الدولة لأن القانون الجزائري يتسامح ولا يلاحق شركاء السارق! وعدم عودة الأموال المسروقة بالنسبة للجزائر والمهربة إلى الخارج للجزائر فيها تقاليد تاريخية.. فقد ذهبت أموال جبهة التحرير في سويسرا سنة 1962 ولم تعد أبدًا! وتلاها في السنوات الأولى للاستقلال هروب العديد من الوزراء بالمال العام إلى الخارج ولم يعد منه إلى خزينة الدولة أي فلس! وعندما طرحت قضية ال26 مليار دولار التي هُرِّبت إلى الخارج كرشاوى وفجرها عبد الحميد ”لاسيانس” لم يعد منها أي فلس لخزينة الدولة! وعندما طرحت مسألة الاتفاق الأمريكي الجزائري حول الغاز سنة 1980 وشكلت لجنة تحقيق برلمانية فيما عرف بقضية ”البازو” انتهى الموضوع إلى الغلق! لأن الأمر آنذاك طرح في سياق المعارك التي نشبت بين الرفاق إثر وفاة الرئيس بومدين والخلاف الذي نشب بخصوص خلافته! الملاحظ أن سياسة مكافحة الفساد لا تظهر إلا عند قدوم المواعيد السياسية الكبرى مثل موعد 1979 وموعد 1990 وموعد 1998.. فهل هذ الأمر له علاقة بموعد سياسي هو الآن أصبح على الأبواب؟! لسنا ندري؟! والمؤكد أن ”الحمّام” الساخن الذي وضعت فيه سوناطراك هذه الأيام ومن ورائه البلاد كلها، رغم بشاعته في نظر الشعب، إلا أنه ظاهرة صحية تجعل الشعب يؤمن بأن الله يمهل ولا يهمل! وكل من يمد يده إلى المال العام لابد أن يلقى يوما ما مصيره! لكن الناس يتساءلون لماذا تمت عمليات متابعة السراق الآن ولم تتم في الماضي، أي منذ سنوات، عندما تمت هذه السرقات؟! بعضهم قال: إن هذا جاء بعد أن قامت الدولة بإصلاح القوانين التي تخفف عن السراق العقوبات! ومعنى هذا الكلام أن هذه الملفات فتحت لتغلق برفق! وفي ذلك دلالة على ارتباط السياسة بالسراق الفعليين! وليس بالسراق الظاهرين في الملفات! هل من الصدفة فعلا أن تكون أكبر فضيحة في أهم مؤسسة اقتصادية تعتاش منها البلاد؟! وهل من الصدفة أن تكون الفضيحة الثانية للفساد تحصل في الطريق السيار، أضخم مشروع تعرفه الجزائر المستقلة؟! وهل من الصدفة أيضا أن تكون الفضيحة الثالثة في مترو الجزائر قبل أن يشتغل يسرق بهذه الطريقة؟! وهل من الصدفة أن تكون أكبر فضيحة في الفلاحة هي فضيحة الإصلاح الفلاحي الذي كانت البلاد تعول عليه في النهوض؟! شيء واحد كشفت عنه هذه الفضائح هو أننا عرفنا لماذا تخصص البلاد مبالغ هائلة بعشرات المليارات من الدولارات للتنمية ولا تحدث التنمية المرجوة منها!؟ فالتنمية تحدث فعلا ولكن خلف البحر هناك في البنوك الأجنبية حيث يتطور الجزائريون فيصبحون رجال أعمال في سن مبكرة فيما تبقى البلاد هنا بفعل الفساد رهينة التخلف! قد يكون الفساد العاصف بالبلاد مرده إلى أن البلاد تتوفر على مبالغ مالية هائلة آتية من الثروة البترولية.. وأدت هذه المبالغ الخيالية إلى ”طرد” صندوق النقد الدولي من الرقابة على الأداء الحكومي..! وهو ما فتح الباب أمام سوء إدارة البلاد اقتصاديا! وأدى إلى هذه الكوارث! ومازال الرأي العام يصرخ: نعم لكشف السراق.. لكن الأهم من ذلك هو ضمان عودة المال المسروق! ولا أظن أن ذلك سيحدث.. وبالتالي قد يكون الأمر هو ”قَوْنَنَة” السرقة وليس محاربة السراق!