في مقهى ابن خلدون .. رائد الأسئلة القومية والحضارية، يمكنك أن تشرب قهوة قومية أوشاي طائفي أو منقوع الشوفينية الخالصة النّقية .. ولا بأس بالحلوى القُطرية - بالضمة على القاف - وقد ينصحك العارفون بتذوّق مفخرة المقهى الخلدوني: الكوكتيل الوحدوي ”أو حتى الخمرة العروشية و(الشيشة) المذهبية... وفي ركن مميز من هذا المقهى، ركن نظيف حسن الإضاءة، جلست المبدعة هاجر قويدري إلى فنجانها، تقرأه ويقرأها .. تحتسيه حتى الثّمالة، فيتساءل المتسائلون : ما الذي في هذا الفنجان من دون سائر الفناجين المثيرة؟ أي مذاق وأي رحيق وأية عصارة... وقد لا توافق المبدعة المتميزة، المبدعة على حِدة، الصديقة العزيزة هاجر قويدري، على مقولة سهلة من نوع : قل لي ماذا تشرب أقول لك ... لكنها توافق على أن السؤال لماذا الزنجبيل وليس عصير البرتقال، عفوا، لماذا القومية وليس القُطرية، أو لماذا التفكيك وليس التوحيد، والانعزال وليس التكامل.. قد توافق أنها أسئلة (لائقة ومعقولة) إن لم تكن واجبهة وحتمية. الأرض تتكلم .. جزائري ! لا ثلجية ولا نارية، ولا يتقاسمها الأسود والأبيض، ولا تتمسّك كثيرا أو بأي ثمن بضرورات التموقع الإيديولوجي أو حتى الجمالي ..لا ثنائيات مزعجة في فكر ووجدان هاجر قويدري، وإنما شيء من قوة جميع العناصر الكونية، الريح والماء والنار والتراب، وشيء كثير من السيولة والتدفق الحر، والتقشف الإيديولوجي على طريقة أبي حامد الغزالي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) لا على طريقة دعها تأخذ مجراها .. فأين في كل هذه الحرية الوحشية وهذا العصف والاندفاع يمكن (حصر) النزوة الهاجرية؟! وإما قد نتفاجأ - وما عسى أن تكون النزوة إن لم تكن مرادف المفاجأة - أن نفس هذا العالم الكتوم المضاد لكل شفافية سهلة ومبتذلة، يشتهي فجأة الصراخ وأقصى درجات التعبير الذّاتي والتحديد والتموقع الذاتيان، في كلمات خاطفة، قاطعة لا تحتمل التأويل. وهاهي هاجر قويدري، فجأة، ولمن لا يعرفها تصرخ في عمود صحفي جهير قاطع أنها لو لم تكن جزائرية لتمنت أن تكون جزائرية، بكل القدرة المطلقة ل ”الجينات” وبكل الوضوح الساطع للملامح واللهجة والنبرات، وأنها منذ زمن بعيد لم تعد جزائرية بقوة الصدفة الجغرافية بل إنها تختار (جزائريتها) تأكلها وتشربها وتلبسها وتتعلمها وتكابدها.. وإنّ كونا جزائريا بأكمله انفتح أمامها وبداخلها، يحتضنها احتضان البرنس للجسد، احتضان الانتماء والتجذر، وأن أفضل ما يمكن أن يقدمه لها المقهى الخلدوني، طاولة خضراء في ركن أخضر.. طاولة جزائرية برنامجها العاجل :(ديري حالة)، ديري الثأر الجزائري والجدارة الجزائرية. وتصمت هاجر، ويتابع آخرون : ديري الذّات الجزائرية، الشخصية الجزائرية، الأمة الجزائرية، وما شئتم من تطلّبات ونوازع لعل أغرب ما فيها أنها كلها تنتهي ب (النقطة) الحاسمة، بينما هي منذ مئة سنة على الأقل، منذ بداية الوعي القومي، ما زالت مدموغة بكل علامات الاستفهام والتعجّب! لقد كنا نظن أنها (تتكلم عربي) - الأرض! - كل الأرض كما قال سيد مكاوي .. الآن إنها تتكلم كردي، سومري، تونسي، مصري، الآن إنها شوارع تتكلم وأحياء وأحزاب وطوائف وأعراق ولهجات، الآن إنها ليست حتى برج بابل، بل مستنقع بابل والمصيدة البالية، مصيدة التشتت والتجزئة الشاملة، وفي كل هذا الصراخ البابلي نبحث عن صوت هاجر قويدري، عن مقاصدها وتلعثماتها وتأكيداتها، فالمقهى الخلدوني على مدار الساعة منذ مئة سنة ... والسؤال أيضا! من الملعب .. إلى قصر الثقافة إلى البرلمان! ألا لا يجهلن أحد علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلين. ألم تكن تلك هي البداية منذ ألف وخمسمائة سنة، أو منذ شهرين! منذ ملحمة (بكر وتغلب) في العصور الجاهلية إلى ملحمة الجزائر ومصر في مطلع الألفية الأمريكية. وقبل الجزائر ومصر، الألف صدع وشرخ وتمزق وانفصال على طول وعرض الوطن العربي، وقد جهِلوا علينا حقا أسوأ وأفظع وأنكى جهل، من ثمّة قررنا أن نجهل أو جهلنا بلا إصرار وبلا ترصد، كما يجهل الجرح وكما يجهل الألم والحمى والغيرة والغضب. فأين هي المشكلة في دمعة تلقائية قهرية أو صرخة غريزية، أين المشكلة في عمود هاجر الأكثر حزنا عى الإطلاق في كل كتاباتها الصحفية (عمودها المصري) الغاضب الجريح المهان، المجهول عليه، العمود المتألم الكازّ على أسنانه الكازّ على كبريائه وجدارته؟ .. لا، لا مشكلة على الإطلاق، (شقشقة بعير، هدَرت ثم قرّت).. لكن أبعد قليلا من عمود هاجر، في الحاشية والهوامش والشروح، بل في الديباجة الخضراء بأجمعها هل هذا هو حقا كل شيء وكل المسألة، هل هذا هو ما حدث منذ ألف وخمس مئة سنة أو منذ شهرين؟ الجواب هو قطعا : لا! ما حدث أن العقيدة التي صاغها (عمرو بن كلثوم) في معلقة شعرية كاملة حاول أن يصوغ فيها الجدارة والامتياز (التَغْلبيان) - نسبة إلى قبيلة تغلب - ضد كل الجدارات المنافسة أو المعادية، تلك المعلّقة الشهيرة نفسها قد تم التعليق عليها في هامش المتن الأدبي العربي، بالعبارة الشعرية التالية: ألهى (تغلب) عن كل مكرمة، قصيدة قالها عمرو بن كلثوم، فلله درّ الرجال ودرّه من شعر غير مسؤوم.. وعلى هامش المتن الثقافي والإعلامي الجزائري المعاصر يمكن التعليق بالشيء نفسه تقريبا: في محاولة عفوية ل حماية الذّات الجزائرية) انجررنا دون اختيار أو قرار مسبق إلى محاولة إعادة تعريف الشخصية الجزائرية، الذّات الجزائرية، ومثل الانفجار الانشطاري المتسلسل، تتابعت الردود والاستجابات الانفعالية والذهنية في سلسلة من النوازع المبهمة والتساؤلات الغامضة حول (الأمة الجزائرية) في قفزة فلكية، أسطورية فانتازية، ما بين قلب الملعب الرياضي وقلب المؤسسات الثقافية والإعلامية والحزبية والسياسية: ما الذي يميز الذّات الجزائرية أمام (الآخر) الذي تصادف ويا للدهشة أنه ليس الآخر البعيد أو الأجنبي، بل الآخر الحميم، اللحم والدم أو الجزء الذي لا يتجزأ داخل القلب والعقل والضمير نفسه. وتزداد الدهشة وتتفاقم بسرعة الصوت وسرعة الصراخ، فإذا نحن أمام (إجماع وطني) على بتر العضو الحميم واستلاله من تلافيف المخ والذّاكرة، وشطبه رمزيا وواقعيا على كل صعيد. لقد تم توحيدنا عاطفيا وذهنيا وسلوكيا، وحصلنا أخيرا على الإجماع الهُويّاتي الذي كان للأسف إجماعا على الضغينة. لقد حصلنا على أطنان من الصفحات واللافتات حول مصر وضد مصر، أو حول الكيان الجزائري ضد كل الكيانات المعادية، أطنان من (الحبر الأخضر) الذي انتبه أو لم ينتبه إلى أننا بصدد إنتاج ذهنية قومية وإيديولوجيا قومية على وشك أن تتحوّل أو تحوّلت بالفعل إلى برنامج اجتمتاعي وسياسي، لا يتمتع فقط بالدوام النسبي بل يحظى بكل امتيازات القيمة الخالدة، المؤكّدة والجوهرية التي لا تحتمل النقاش. إنها فوق التقييم، فما بالك بالنقد .. فوق التحليل الهادئ فما بالك بشق عصا الإجماع، فما حدث في غمضة عين أو غمضة وعي أننا طالبنا وعلى الملأ أن تتحوّل القطيعة العاطفية مع مصر إلى مؤسسة قانونية تنتج قوانين المقاطعة وتنتج مفاهيم ومراسيم القومية القُطرية، حتى لو لم يتم ذكرها بالاسم .. فلو قال قائل إنه لا بد للعاطفة القُطرية الجريحة، المستثارة أن تنتج عقيدة قُطرية، وأن ينتج عنهما معا وضع سياسي قُطري قلبا وقالبا، لكان محقا ومنسجما مع منطقه الخاص، ولو قال قائل آخر إن العكس صحيح، وأن السياسة القُطرية قد تحتاج إلى وعي قُطري كغطاء نظري إيديولوجي وقانوني، وقد تحتاج إلى إثارة العواطف القُطرية بأي ثمن... لكان محقا أيضا ومنسجما مع منطق الشك والريبة والاحتمال. من قطف الخطى.. إلى حثّ الخطى.. إلى.. أين ؟ ضربونا بالحجارة وبالبطاقات الحمراء وبالنعوت العنصرية الأكثر لؤما وحقارة .. وسال الدم والعرق والحبر، وسالت المواقف الدبلوماسية والإعلامية والحزبية .. شكّكوا في ضوء النهار نفسه، في الطيبة والأصالة الجزائريتان، في الرّوح الجزائرية .. أجبرونا على الالتفات والاستطلاع وعلى أقصى درجات الغضب والحزن والصدمة، وغير بعيد عن المظاهر الكروية والرياضية، في اللّب والصميم كان السؤال هُويّاتيا، وجوديا بامتياز، كان سؤالا في أوانه حتى وهو سؤال قديم متجدّد، وإنما المشكلة كل المشكلة في هذا الأوان نفسه: في أي سياق زمني وتاريخي واجتماعي حدثت هذه الصّدمة الوجودية الجذرية؟ في سياق تفتّت المشروع الوحدوي العربي، في سياق التجزئة الطائفية، في سياق المجابهة الشاملة مع الحضارة الغربية ومع القرن الأمريكي الذي تم تدشينه بمحاصرة ومهاجمة (البيت العربي) برًّا وبحرًّا وجوًّا، مع وضعه تحت المجهر وتحت الشوكة والسكين ..فهل يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر تنافرا من هذا السياق التاريخي التوحيدي (وحدة الأزمة والمصير) وبين هذه الجملة الاعتراضية الانعزالية، الانفصالية، التفكيكية؟! تماما مثلما أنه ليس هناك ما هو أكثر تناقضا من الظاهر الرياضي، الكروي، الظاهر الفجائي العفوي اللاّمدروس والباطن السياسي الإيديولوجي، الباطن المبَّيت الجادّ، الخطير المفتوح على أقصى حدود الفاجعة والمأساة! أطرف من ذلك وأغرب، هل هناك ما هو أكثر إدهاشا من عمود (قطف الخطى) العمود الأكثر رقة في الصحافة الجزائرية، حين يتحوّل فجأة، ليوم واحد على الأقل، إلى صوت المَارْش العكسري وكل صنوج وطبول الفرقة النحاسية! لقد احتجنا إلى مصر لنصل إلى هذا الإدراك الذّاتي وهذه الاستنارة الداخلية، إلى مصر وليس إلى فرنسا أو إسرائيل أو الجنرال كوكا كولا.. وفي داخل هذا القُمع - الضمة على القاف- هذا القُمع الذي لا يفتأ يضيق كلما انزلقنا بداخله أكثر، فما الذي يؤكد أو ما الذي يضمن أننا لن ننزلق إلى القعر الرهيب، فمن القومية العربية إلى القومية الطائفية، القبلية، العروشية، وحتى قومية الحي وقومية الفريق الرياضي... من الكتلة إلى الفتافيت إلى الذرّات القومية إلى الهباء القومي، فبينما نحاول أن نبلور إرادة جماعية في التحدُّد والوضوح أمام الآخر، بينما نظن أننا لا نفعل سوى الدفاع وحماية (الأنا الوطني) نكون قد جعلنا من مجرّد طريقة في الغضب، طريقة في الانفعال، من مجرّد جرح نرجسي، عقدة وجودية كونية بحجم (أمة)! وبقدر ما يتعلق الأمر بالمبدعة الكبيرة هاجر قويدري، لماذا لا نعود إلى الاسم الثابت والعنوان الثابت للعمود( قطف الخطى) فنقول إننا مازلنا نراهن على الحركة والاتصال ضد كل انفصال وانعزال، وأن هذا أحد الدلالات الثابتة لتعبير (الخطى) نفسه، وهو تعبير هاجر نفسها وتوقيعها وإشارة سهمها الفكري والجمالي. رسالة الغفران كتب أبو العلاء المعري رسالة الغفران، فاعتقدنا خطأ أنه قام بعملية فرز تعسفية تضع نصف الشعراء العرب في جهنم (النصف غير المتوقع) ونصفهم الآخر في الجنّة، بحسب مزاج المعري الموغل في التشاؤم والقسوة والارتياب. وكان اعتقادا خاطئا بلا ريب، لأنّ (الفرز) كان داخل ضمير المعري نفسه وداخل عقله ووجدانه، فلم يحاسب المعري أحدا آخر إلا نفسه ومكونات عقله وضميره.. وها هي هاجر قويدري، على الخطى المرتابة نفسها، تضع نصف عقلها وقلبها فيما بين الجنّة والنّار، فيما بين القبول والنبذ، بين الاحتفاء وإعادة التقييم... وها هو عادل إمام في النّار، وعبد الحليم حافظ ونجاة وفايزة أحمد وطه حسين .. ها هو عقل هاجر أمام عقل هاجر نفسه، في مواجهة تنقيب وتفتيش وفرز .. واستكشاف للمنابع والتأثيرات والخمائر، هاجر أمام ثرائها الذّاتي وانقسامها الذّاتي .. ولأنها قرّرت أن تصبح أقل مصرية من أي وقت، أقل شرقية وأقل انفصاما، فإنها بحاجة إلى كل الوقت اللازم، كل الخلوة اللاّزمة للنقاهة والاستبصار واليقين. ولا يحق لأحد أن يتدخّل فيما بين جلد الإنسان وعظمه ونخاعه، لكن يمكن لأصدقاء هاجر، ممن يعانون الأزمة العاصفة، الطاحنة نفسها، أن يعلّقوا بكل الحب والتقدير أنهم ليسوا على يقين من هذه (الدَيْنونة) المستعجلة وهذا الحساب العسير، التفصيلي، وأن عادل إمام وصاحب (الأيام) ما زالوا على (الأعراف) في حالة وقف التنفيذ يطالبون بالحق في الاستئناف، لا باعتبارهم أشخاصا أو باعتبارهم (قومية)، بل ...(الجينات) الحضارية الثابتة، المهيمنة، باعتبارهم الجزء الذي لا يتجزأ أو العقل المستفاد، المشترك الذي لا نستطيع أن نشطبه دون أن نشطب أغلى كنوز الروح والوجدان. وقد يكون من الصعب أن نحب عادل إمام رغم أنف عادل إمام ..لكن من الصعب بالقدر نفسه، أن نكرهه رغم أنوفنا نحن أنفسنا.. فهو مع طه حسين ومع النغم الشرقي، ومنذ زمن بعيد ليسوا ( الآخر) البعيد، اللّهم إلا الآخر الذي نراه في المرآة ونراه تحت جلودنا نفسها. محمد بسرة