مما لا شك أن السينما الغربية ذات التقنية العالية جدا ما زالت أداة ساحرة تملك شعبية واسعة وتتأقلم مع الحدث العالمي برمّته وتتطور مع هذا الحدث بكل أبعاده السياسية والاجتماعية، عَبَرت هذه السينما منذ زمن كل الحواجز ولم تتوان عن طرح مواضيع عامة شائقة وشيّقة لا تأبه للمؤسسات الدينية ولا للمؤسسات الاجتماعية في العالم الغربي استغلت تلك السينما استغلالا تاما حرية التعبير عن الرأي وعن العقيدة الدينية، التي وفّرتها تلك المجتمعات خلال القرون الماضية عبر ثوراتها الاجتماعية والسياسية وعبر الطفرات الاقتصادية التقنية التي جلبت فيما جلبته أرضا خصبة للتطور الثقافي بمجمله وخاصة صناعة السينما المتطورة. نحن هذه المرة بصدد فيلم جديد أنتجته شركة "سوني" العالمية العملاقة ولم تنتجه هوليوود، ربما تجنبا لصراع حاد مع الكنيسة الكاثوليكية بعد أن واجهت صراعا مع المؤسسة الصهيونية العالمية والصهيونيين الجدد في أمريكا بعد فيلم ميل جيبسون عن "آلام السيد المسيح"، وعذاباته بطريقه للصلب بعد أن خانه يهودا الأسخريوطي، وباعه بثمن بخس للرومان الذين صلبوه وعذبوه حتى الموت. اتهم ذاك الفيلم مباشرة المؤسسة الكهنوتية اليهودية آنذاك وحكمائها مباشرة بصلب المسيح وإبعاده ودينه الجديد عن أفق اليهودية وامتيازاتها بكونها آنذاك الديانة الموحّدة الوحيدة على الأرض. أثار ذاك الفيلم قبل عرضه وأثنائه وبعده جدلا لم يهدأ حتى الآن. الفيلم الذي نحن بصدده في هذه المقالة هو فيلم "دافنشي كود" الذي زعزع عرش البابوية وما زال لتعرضه لقضية مصيرية باتت تهدد المؤسسة الكهنوتية الكاثوليكية في أصقاع الأرض كلها. قصة الفيلم باختصار شديد تدور حول النزاع التاريخي بين الكنيسة الكاثوليكية وبين جمعية "سيون" التي تعتبر "الأنثى المقدسة"، هي جوهر عقيدتها السرية والتي تعتقد بشدة أن الكنيسة الكاثوليكية زيفت تاريخ المسيح البشري وحاولت عبر العصور محو كل الشواهد والأدلة حول بشريته. بناء على هذه المعتقدات تقرّ هذه الجمعية أن السيد المسيح عليه السلام تزوج من مريم المجدلية بعد أن خلصها من الإثم والضياع، ورزق ببنت كوّنت السلالة أو الذرية التي ترجع إلى نسبه حتى الآن. هذه الجمعية السرية المعارضة للفكر الكهنوتي- اللاّهوتي وأسسه التي بنيت عليها الكنيسة الكاثوليكية منذ أن وجدت على الأرض، هناك اعتقاد ان هذه الجمعية انوجدت في العالم المسيحي بعد سنة 1119، عندما أرسل البابا آنذاك سبعة من فرسان الهيكل إبّان الحروب الصليبية إلى الأرض المقدسة لإحضار سر تاريخي مسيحي هام وربما الأهم على الإطلاق. حقيقة، خرج أولئك من فرنسا وأتوا إلينا وإلى القدس بالتحديد وعادوا إلى البابا، بعد ثمانية اإوام وهم يحملون ذاك السر المسيحي الذي ما زال طلسما حتى يومنا هذا. هناك اعتقاد من قبل تلك الجمعية السرية الآنفة الذكر أن ذاك السر كان جثمان مريم المجدلية، وكأس العشاء الأخير الملآن بدم السيد المسيح بعد الصلب. بعد أن عاد أولئك إلى فرنسا علا شأنهم وكوّنوا حركة كهنوتية فروسية قادت الكثير من الحملات الصليبية الوحشية ضد الشرق العربي وفلسطين بالتحديد. عام 1307 أعلن البابا عليهم حرب الإبادة واتهمهم بالكفر وبالزندقة وبمساعدة أساطين أوروبا الكاثوليكيين، أبادهم عن بكرة أبيهم وانتهى وجودهم العاصف كما بدأ وضاع سرهم ذاك واختفى وبقي محفوظا حسب رواية الفيلم في سلالات جمعية "سيون" تلك حتى يومنا هذا. من المشكوك به أن الفنان العبقري دافنشي كان عضوا بارزا في هذه الجمعية، المعروف عنه حقيقة أنه كان فنانا غريب الأطوار متعدد المواهب مثيلي الجنس، رغم أنه رسم الكثير من اللوحات الهامة في الفن المسيحي وأهمها على الإطلاق جدارية العشاء الأخير الموجودة في ميلانو الإيطالية، لكنه بقي على خلاف عقائدي مع الكنيسة. رسم اللوحات المسيحية وضمّنها الكثير من الأسرار والرموز الوثنية من مصر الفرعونية ومن بابل وبلاد الإغريق البارزين في جمعية "سيون"، التي هي أبعد ما تكون عن المسيحية، والتي تدّعي ازدواجية السيد المسيح البشرية والإلهية، تعتقد أيضا أن حياته البشرية على الأرض كانت عادية تزوج وترك وراءه نسلا إلى يومنا هذا، يعيش بالخفاء خوفا من إرهاب الكنيسة التي مارسته ضدها قرونا طويلة. ما كتبناه حتى الآن من وقائع تاريخية وشبه تاريخية وأخرى مشكوك في أمرها أوحت للكاتب الأمريكي الشاب دان براون لروايته التي تحمل نفس اسم الفيلم "دافنشي كود" التي لاقت رواجا عالميا وترجمت إلى 50 لغة في أقل من عام. شركة "سوني" الشهيرة حوّلت هذه الرواية التي صدرت عام 2003 إلى فيلم سينمائي ناجح، أثار حفيظة الكنيسة الكاثوليكية في كل أنحاء العالم، لم تفلح البابوية ولا حتى الحكومات الغربية من منع عرضه ولم تنجح المعارضة الشعبية من اتباع الكنيسة ورعيتها هناك من وقف عرضه وقابل رواجا هائلا كما الرواية. ملخص الحدث السينمائي يدور في أجواء بوليسية غامضة حين يقتل المسؤول في متحف اللوفر الباريسي الشهير أحد زعماء تلك الجمعية السرية "سيون" على يد راهب أرسلته الكنيسة ويترك رسالة- شيفرة- خلف لوحة الموناليزا المعروضة هناك لحفيدته "صوفي" العالمة بالرموز ويطلب منها أن تستعين بعالم أمريكي مشهور بعلم الرموز الدينية- الوثنية في جامعة "هارفرد" ليساعدها على حل الشيفرة التي تركها والتي توصل ربما إلى جثمان مريم المجدلية وإلى الكأس المقدّسة التي تثبت باليقين والعلم بشرية السيد المسيح قبل ألوهيته، إذا وجد الجثمان ووجدت الكأس ووجدت "صوفي" التي تؤكدها قصة الفيلم على أنها آخر فرد من سلالة المسيح، كان بالإمكان إثبات الحقيقة في عالم التقنية البيولوجية المتطورة المتوفرة اليوم بفحص الأحماض الوراثية ال د.ان. ايه التي تخزن بداخلها الموروثات البشرية، بعد أن كشف العلم اليوم خريطة- الجينوم البشري، كلها ليس من الصعب علميا إثبات حقيقة وراثية- أبوية السيد المسيح وأمومة مريم المجدلية إذا انوجد جثمانها لهذه الشابة الجميلة السمراء ذات الشعر الأسود التي يدّعي جدها المغدور أنها آخر حفيدة للسيد المسيح على الأرض. تحاول الكنيسة بكل الطرق منع هذا الأمر من أن يتحقق ولا تدخر مالا ولا قتلا ولا أساليب دموية من إنهاء هذه القضية بسرعة التي تهدد وبحق أسس المسيحية كلها وتدحض بالأساس مبررات وجود الكنيسة التي تقوم على ألوهية المسيح وترفض بشدة حالته البشرية وزواجه من مريم المجدلية. تدور أحداث الفيلم بأسلوب شيق وفني رفيع المستوى وبحركة سينمائية تقنية باهرة للغاية عندما تعود الكاميرا مرة بعد مرة وتربط أحداث الفيلم مع الأحداث التاريخية بتوافق فني جذاب للغاية خلاب مبدع في صالات العرض في اللوفر وفي شوارع باريس وأقبيتها وصالوناتها وكنائسها قديمها وحديثها، يخال للمشاهد بأنه يرى أمام عينيه ويتابع أحداث أكبر قصة إنسانية بدقائق معدودة بما فيها من خيال ومن واقع ومن جمال وقبح ومن عذاب وألم ومن إثم ومن قداسة. ينتهي الفيلم ويبقى السر سرا محفوظا ربما للأبد، ويبقى السيد المسيح شامخا أبيا معلما أكبر للبشرية كلها على مر العصور، كفى ذاك الفيلم الجميل أنه أثار قضية ذات أهمية إنسانية قصوى هيأته له الظروف والمناخات الحرة التي وفّرتها المجتمعات المتطورة والتي لا تنفك ترغب بالمزيد ولا يكفيها حتى حل لغز الخليقة والخلق بل تبحث عمّا قبل الخلق وما بعده، تسألنا برهبة وخشوع : نحن البشر كلنا إلى أين المصير؟؟ ما هي الحقيقة وما هو الخيال؟؟ أين البداية وأين النهاية؟؟ ما هو الأزل وما هو الأبد؟؟ ما هي طلاسم هذه الحياة البشرية؟؟ أين سينتهي الترحال بكوكبنا الأزرق وهو ربما كان نقطة من خيال وربما لغزا من ألغاز دافنشي أودعها إحدى رسوماته الجميلة التي تزين متاحف وكنائس العالم. من القضايا التي أثارها هذا الفيلم الذكي الجميل - وإن كنا لا نوافق على جميع ما ورد فيه من خواطر وأفكار - هي : أولا- التزييف البشري لتاريخ السيد المسيح عليه السلام على أيدي الكنيسة الكاثوليكية، ما هي حقيقته، تلك البشرية أم تلك الألوهية؟ ثانيا- إهدار أهمية المرأة في المسيحية كما في الديانات الموحدة بعدها وقبلها، تهمش دورها في تلك الديانات بعد أن كانت آلهة في الوثنية، نذكر على سبيل المثال وليس الحصر إيزيس آلهة الخصوبة في مصر القديمة، بعل وعشتاروت آلهة الحب والخصب عند الفنيقيين، وإفروديت آلهة الحب عند الإغريق القدماء. ثالثا- اعترافا ضمنيا من الغرب المسيحي بأن المسيح عليه السلام شرقي ذو ملامح شرقية سمراء ذكية إذا صدقت حقيقة "صوفي" بالفيلم، لا شك أنه من هنا أطلق رحمته وسلامه للبشرية، من هنا كانت لغته وهنا حياته وصلبه ومماته وقيامته وقبره، وما هي الحروب الصليبية القديمة والجديدة إلا كذبة كبرى وحروب عدوانية لا تمت لإنسانية المسيح بأية صلة. وبعد نتمنى للسينما العربية الساقطة في هذه الأيام التعيسة لو تتعلم القليل من هذا الفيلم، من مواضيعه وتقنيته وتترك "النوم في العسل" و"همام في امستردام"، وهذه الأفلام الشبابية المعاصرة الساقطة للأسف لأنها ببساطة شديدة تبتعد عن القضايا التي تعاني منها الشعوب العربية في أرذل مراحل وجودها على الإطلاق، نتمنى على اللاّهويتة الإسلامية- إذا صح هنا التعبير- أن تترك الإبداع للمبدعين وأن لا تكفّرهم على إبداعهم مهما كان، لأن فيه مستقبل وخلاص هذه الأمة.