مع احتلال الصين لمكانة ثاني أكبر الاقتصاديات العالمية، بعد إزاحتها لليابان من هذا الموقع، تبدو الساحة الاقتصادية الدولية بصدد تشكيلة جديدة للحقبة القادمة. وعلى الرغم من انشغال المحللين بتقييم المواجهة المنتظرة (اقتصاديا بشكل أساسي) بين الولاياتالمتحدة والصين وتبعات هذه المواجهة بأشكالها المختلفة، فإن المواجهة الحقيقية ستكون بين الصين والهند. الصين وصلت لهذه المكانة بأسلوب يستحق التأمل، فهي بكل المعايير كانت ولفترة قريبة جدا دولة “متخلفة” جدا ومنغلقة عن العالم تماما، حصرت نفسها بفكر وثقافة شديدة التقوقع وولدت تيارا متطرفا غير قادر على التعايش مع عالمه ومع جيرانه بشكل خاص، للخروج من هذه الحالة اتبعت إدارة الحزب الشيوعي الصيني، وخصوصا بعد رحيل الزعيم الكبير ماو تسي تونغ، خطا مغايرا جدا، فانتهجت رأس مالية صينية خاصة تتحكم فيها سلطة مركزية قوية جدا لا تغامر بالسلطة ولا بالموروث السياسي أبدا، ولكنها تفتح الأسواق وترحب بالمستثمرين بشكل مدهش، وهي حقيقة تتبع فكرا قديما معروفا في الصين مبنيا على استراتيجية “فن الحرب”، ذلك السِّفر العتيق للقائد الصيني الفذ “صن نسوي” الذي كتبه منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، ويعتمد هذا الفكر على ثقافة الانتصار دون المواجهة الحقيقية، وهو يؤمن بأنك تستطيع هزيمة العدو دون العراك معه، فقط بطريقة مركّزة قواتك في المواقع السليمة، اعتقادا بأن المعركة ممكن حسمها قبل ودون المواجهة، وهو فكر نافذ وعبقري، الغرض منه إشغال الطرف الآخر وإنهاكه تماما بإثارة مخاوفه وقلقه حتى تصبح هزيمته تلقائية وتحصيل حاصل. وهذا الفكر تبنته اليابان في فترة من الفترات حين تبنّت إلى “حد ما” فكر قائد فذّ من قادتها هو “مياموتو موساشي” مؤلف كتاب “الحلقات الخمس” وكتب لليابان النجاح، وهي أساس فكرة “الكايجن” التي عرفت من الشركات الناجحة في اليابان والتي تعنى بالتطور المستمر نحو التميز والريادة، وهو الذي ميّز النجاح الياباني العالمي: “فولد سوني”، و”هوندا” و”لكزس” و”تويوتا” و”باناسونيك” وغيرها من قصص النجاح المبهرة، ولكن لأن الحجم مهم كما يقال فإن حجم اليابان لم يساعدها على الحفاظ على النمو وخصوصا أنها تواجه خطر نمو السكان السلبي ومعدلات الشيخوخة العالية في سكانها، فهي لن تكون باستطاعتها المحافظة على معدلات النمو الاقتصادي المبهر الذي عرف عنها في السبعينيات والثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، ولذلك جاءت فرصة الصين التي تحولت إلى “مصنع” العالم، لرخص الأيدي العاملة ولدعم الحكومة المطلق لكل هذا الحراك الاقتصادي الهائل، فطوّرت بنيتها التحتية بشكل أشبه بالأسطورة وعلى أحدث المستويات وأهم المعايير، ويبقى التحدي المتعلق بجودة المنتج، وهو هم يسعى الصينيون لتجاوزه حتى لا تلتصق بهم السمعة الرديئة ويصعب بالتالي الخلاص من ذلك. الهند من جهة أخرى كما الصين يفوق تعداد سكانها المليار نسمة - والاثنتان ممكن الحديث عنهما كالحديث عن القارات وليس عن الدول - ركزت على تطوير الخدمات على حساب الصناعات فتألقت في تقنية المعلومات ومنتجات الأدوية والتعليم والطب والتدريب والخدمات المساندة للشركات كخدمة العملاء والمحاسبة والمشورة والمحاماة، اعتمادا على إرث اللغة الإنجليزية التي ورثوها بسبب الاحتلال البريطاني لها، ولكن شهية الهند “انفتحت” فدخلت وبقوة في الاستثمارات الصناعية الكبرى لتستحوذ على كبرى شركات الحديد والسيارات والأثاث والأغذية وغيرها، لتكون رقما صعبا جديدا لا بد من مقارنته قريبا بالتنين الصيني الجامح. الهند والصين هما الجولة القادمة من الصراع الاقتصادي الجديد، وخصوصا في ظل معاناة الدول الاقتصادية الكبرى من أزمات لن تفيق منها لفترة ليست قصيرة من الوقت. حسن شبكشي