لا يعقل ممن يدخل عاصمة الأهقار، موطن الرجل الأزرق، تمنراست، أن لا يزرو جبل أسكرام، نظرا لأهمية هذا الموقع السياحي الساحر بطبيعته الخلابة. منذ تواجدنا بولاية تمنراست في إطار تغطية فعاليات الأسبوع الثقافي لولاية جيجل بتمنراست، بعد رحلة شاقة ومتعبة على مسافة حوالي 2400 كلم، كان فضولنا جامحا لزيارة العديد من المعالم السياسية والأثرية والتاريخية التي تزخر بها الحظيرة الوطنية للأهقار منحوتات بركانية لأشكال إنسانية وحيوانية.. من عجائب الطريق إلى أسكرام! وقد وجدنا في البداية صعوبات في إيجاد وسيلة تنقلنا إلى جبل أسكرام، لأن وكالات السفر في تلك الأثناء كانت تعيش ظروفا مزرية بعد منعها من القيام بجولات سياحية للأجانب إلى مواقع الطاسيلي “الهڤار”، وقد التقينا بصاحب وكالة أمنير للسياحة والتي تعني باللجهة الترڤية المرشد، حيث اتفقت معه رفقة فنانين من عاصمة الكورنيش على تنظيم رحلة لنا بقيمة مليون سنتيم تكلفة للنقل فقط. الانطلاقة كانت على الساعة الواحدة زوالا من يوم الثلاثاء الذي صادف يوم عطلة رأس السنة الهجرية، من مخيم الشباب أدريان، حيث تقيم بعثتنا، على متن سيارة رباعية الدفع من نوع “طويوطا” بعد اقتناء كل لوازم الرحلة، حيث أشار سائق السيارة المدعو “بكاي حنين” إلى أن الطريق عبارة عن مسلك غير معبد ومليء بالحجارة بطول حوالي 80 كلم شمال عاصمة الولاية، حيث عبرنا وادي تمنراست لنأخذ اتجاه جبل الأهقار المشهور كما مررنا من مشروع المعهد الإسلامي الإفريقي وكذا مشروع القرن لرئيس الجمهورية المتمثل في تزويد سكان تمنراست بالماء الشروب انطلاقا من عين صالح على بعد حوالي 800 كلم، وبعد أن قطعنا مسافة 10 كلم مررنا تحت سفح جبل الهڤار أو “إغاهن” باللجهة الترڤية، ثم جبل “التيندي” والتي تعني “المهراس” و”يد المهراس”، وبعدها عبرنا وادي أسكرام الذي يصب في وادي تمنراست الجاف والذي لا تجري فيه المياه إلا في شهري جويلية وأوت، وكان يرافقني في هذه الجولة السياحية الرائعة الفنان التشكيلي مانع محمد والمصور الهاوي بازين مراد، هذا الأخير الذي كان يلتقط الصور بكل لهفة وعند وصولنا إلى منطقة “أيلولون” أوضح السائق “بكاي” بأن هذا الاسم يعني المنطقة التي توجد بها أشياء تلمع، وبعدها وبعد سير 30 كلم وجدنا لوحة إشارة بمنطقة “إيزرنن” التي يعيش سكانها عزلة كبيرة خاصة وأن هناك من الطلبة من يقطعون مسافة 60 كلم ذهابا وإيابا من أجل مزاولة الدراسة في تمنراست، على مسلك جد وعر ولا تسلكها سوى السيارات الرباعية الدفع وبأسعار خيالية، أو من خلال مساعدات من يملكون هذه السيارات أو الاضطرار للمبيت عند الأهالي بمدينة تمنراست. جبال بركانية بأشكال إنسانية وحيوانية تزيد من دهشة الزائر رغم تعب ومشقة الطريق الوعرة جدا، إلا أن السلاسل الجبلية التي تحيط بنا من كل الجهات تزيد من دهشة ومتعة الزائر وتعطي للرحلة نكهة خاصة، حيث شاهدنا لوحات فنية أبدع فيها الخالق، منها الجبل المسمى “أضوضاء” وهو بشكل إبهام يد الإنسان وكذا جبل “أوناهم” على يساره الذي يشبه الضرس، وكذا جبل آخر يشبه رأس الإنسان، وبالسلسلة الجبلية “أكاراكار” شاهدنا ما يشبه شكل امرأة تحمل ابنها، ورجل يلبس شاشا تقليديا، وبجانبه جبل آخر بشكل فيل وجبل آخر يظهر بشكل الأسد. وبإمكان الزائر أن يتخيل أشكالا أخرى من زاويا مختلفة حسب رؤيته وحسه التصوري. في هذه اللحظات وبعد قطع حوالي 40 كلم بدأت درجة الحرارة تنخفض بشكل سريع كلما ازددنا ارتفاعا، والهواء يجف، ولهذا ومن أجل حماية الشفتين والأنف والوجه من الجفاف طلب منا السائق ارتداء الشاش أو العمامة أو “لانديغو” وقد قام ذات السائق بوضع الشاش على رؤوسنا وجزء هام من الوجه حسب تقنيات الرجل الأزرق في ذلك، وبعد مرور بضعة دقائق على ارتداء الشاش أحس المصور الشاب بجوع شديد ألزمنا التوقف بجانب بئر جديد بوسط “وادي أفيلال” الموجود تحت سفح جبال “أتاكور” حيث تناولنا وجبة الغداء، ثم واصلنا رحلتنا بين تضاريس وعرة وجبال شامخة وأخرى طينية، قبل أن ندخل الكيلومترات العشرة الأخيرة التي كانت جد صعبة ومخيفة، خاصة وأن السائق قال لنا إن سائحة فرنسية توفيت في حادث مرور أليم في السنوات الأخيرة جراء انقلاب السيارة التي كانت تستقلها، وقد وصلنا إلى سفح جبل “أسكرام” على الساعة الخامسة زوالا، أي بعد 4 ساعات من السير”، حيث توقفنا بالمخيم الوحيد للسياح الذي يظهر ببنايات تقليدية جدا، لنحجز الغرف ونرتدي الملابس الصوفية والقطنية والبرنوس وحتى القشابية التي لم تنفع مرافقي الفنان عند وصولنا إلى قمة الجبل، حيث كان الصعود في مرتفعات صخرية على حوالي 800 متر، حيث وجدنا عند القمة الراهب أو المارابو “إدوارد” الذي يقيم بأول مسكن شيد على قمة أسكرام سنة 1911 من طرف الفرنسي الراهب “شارل دوفوڤولد” الذي كان يستغلها كمعبد ولا يزال ذلك المسكن يستغل لتعبد المسيحيين حيث زرنا عدة أجنحة من المسكن المذكور، والذي يزوره المئات من السياح الأجانب، لنخرج بسرعة قبل إتمام الراهب الفرنسي “إدوارد” المرفوق بزميله الإسباني الذي يقيم معه المدعو “فانتورا” شروحاته لأن موعد الغروب قد حان، لنتوجه أنا وزملائي إلى الجهة الأخرى حيث محطة الأرصاد الجوية. منظر غروب الشمس.. حيث للصمت والتأمل غايتهما العجيبة من حسن حظنا أن في هذا اليوم كانت السماء صافية ماعدا بعض الغيوم القليلة في الأفق القريب تسخر فوق القمة زادتها أناقة وجمالا أخاذا، لتأتي تلك اللحظات العجيبة لأحسن غروب شمس في العالم، حيث كانت الشمس تتهيأ للنوم بين أحضان قمم أسكرام العجيب الذي ألبسته بأشعتها القوس قزحية تاجا رائعا ثمينا يلهم الفنانين والشعراء وكل المبدعين وحتى الذين لا يملكون أذواقا، حيث تشكلت عند نصف قرص الشمس أعظم لوحة فنية من إبداع الخالق عز وجل، وفي هذه اللحظات كنا نتهافت على التقاط الصور من كل الجهات، وفجأة لمحنا بجانبنا المهندس الصيني المدعو “زو” برفقة كل من نور الدين وعيسى المرافقين له، ينافسنا على التقاط الصور بشراسة، حيث وجدت بداخل مخزن آلته أزيد من 6 آلاف صورة قام بالتقاطها خلال جولته بالجبل وما حوله، وكله غبطة وسرور حيث أكد لنا أن هذا المنظر الخلاب لم يشاهد مثله في كل تنقلاته عبر دول العالم، وهو اليوم يعمل بتلمسان في شركة صينية للتنقيب عن المياه، وجاء لتمنراست لمشاهدة غروب وشروق الشمس، وقد بقينا نتأمل في تلك اللوحات الساحرة التي لم نرها من قبل لساعة أخرى بعد الغروب النهائي للشمس، خاصة بعد تشكل لوحات أخرى مع الغيوم الشفافة التي تأتي من ورائها أنوار بألوان مختلفة جعلتنا نرى أشكالا مختلفة وتخيلات أخرى لقمم تلك الجبال، كل وحسه الفني والإبداعي، وقد زاد ذلك الصمت والسكون الذي كان يخيم على ذلك المكان من تعلقنا به وانجذابنا اللاإرادي لسحره، لنعود بعد أن أدركتنا أجنحة الظلام في طريق حجري صعب وكدنا نفقد مسارنا لكننا في الأخير وجدنا ضالتنا وعدنا إلى المخيم حيث وجدنا مسيره الشاب “إيبا عمر” الذي ساعدنا في إعداد وتنظيم ليلة سمرية. ليلة سمرية على وقع المشوي.. والشاي وحكايا الرجل الأزرق اضطررنا للمبيت وذلك لعدم إمكانية التنقل ليلا سواء لصعوبة الطريق أو مخاطر أخرى، ومن جهة ثانية لنغتنم فرصة مشاهدة شروق الشمس، وقد تم تنظيم ليلة سمرية حميمية بين رفقائي وزوار آخرين، منهم الرعية الصيني، حيث اجتمعنا في قاعة كبيرة عبارة عن صالون ترڤي أصلي وبديكور خاص بالملابس التقليدية الترڤية، كما يضم فرنا أو مدفأة تقليدية استعملها “بكاي” و”مراد” في إعداد وجبة العشاء بطهي دجاجة بطريقة تقليدية داخل الفرن إضافة إلى المشوي بالثوم والتوابل والتي تلذذ بها كثيرا الرعية الصيني. بعدها واصلنا السمر باحتساء الشاي على أنغام موسيقى التيندي من إعداد “عيسى” والذي قدم لكل واحد منا الشاي في 3 أكواب، الأول يسمونه “قوي كالحب” والثاني “حنين كالحياة” والثالث “سكر كالحياة”، وهذا وسط حكايا الرجل الأزرق والنساء الثلاث اللائي يحملن اسم تمنراست حسب الأساطير الشعبية وعن أسارو، أي مفتاح مدينة تمنراست، المشهور بالمنطقة، وموسيقى الأمزاد المشهورة وقد كانت درجة الحرارة أقل من 5 درجات تحت الصفر حيث تجمدت المياه الموجودة في قارورة المياه المعدنية. الشروق من الأسفل.. أو سحر المكان لم تغمض لنا جفون إلا ما سرقناه من إغفاءة قصيرة، وما كادت الساعة الخامسة صباحا تعلن ميلادها حتى هببنا وكلنا نشاطا وحيوية مع برودة الجو وانفخاض الحرارة، ثم شرعت ومرافقي في صعود الجبل ونجتاز المسالك الوعرة مستعملين المصابيح اليدوية لقطع ما يزيد عن 800 متر لمشاهدة شروق الشمس من قمة جبل أسكرام، ولقد فاجأنا صديقنا الصيني الذي تسلل قبلنا وكان ملتفا ببطانية صوفية اتقاء للبرد، ولقد كان أذكى منا في احتلال أحسن مركز لمشاهدة الشروق، حيث كانت الريح عاتية مصحوبة ببرد قارس، وكانت حمرة الشروق تجتاز سلاسل الجبال المتعاقبة والمتداخلة والمشكلة للوحة فنية عجيبة وما هي إلا لحظات حتى شرعت تطلع علينا أشعتها النورانية التي مسحت قمم جبال “أتاكور” ثم بدأت تظهر من خلف جبل هرمي الشكل، ثم تطل علينا من خلال فجوة جبل آخر لتقديم صورة رائعة من إبداعات الخالق العظيم، وآية من آياته المتجلية في خلقه، لتبعث فينا شعورا بضعفنا ونقصنا أمام عظمة الله، وقد كان الحاضرون في سباق مع الوقت لأخذ صور تذكارية تثبت اللحظة الفنية والجمالية، خصوصا أننا كنا على ثاني أعلى قمة في الجزائر بعد قمة “التاهات” التي كانت خلفنا، وكنا نرى الجبال أمامنا منخفضة قليلا وهذا سر العجب، إذ كانت الشمس تشرق من تحتنا، وفي تلك الأثناء تمر بالزائر لحظات مفعمة بالدهشة الممتعة التي تنسي الإنسان نفسه وهمومه وعيش هنيهات وأوقات هي من أصفى وأطهر أيامه في الحياة. وفي الأخير حزمنا أمتعتنا وودعنا المكان مشفقين على فرات الأسكرام، على كره منا، فمفارقة مثل ذلك المكان تبعث في أنفسنا ألما، وكلنا أمل على معاودة الزيارة لعدة مرات. وجدير ذكر أن مدير الحظيرة الوطنية للأهقار كان قد منع التسلق إثر وفاة سائح ألماني بعد صعوبة القمة، لكن تبين فيما بعد أن سبب الوفاة سكتة قلبية نظرا لكون السائح عانى من مرض القلب وليس بفعل البرد، إضافة إلى وفاة عدة جزائريين لأسباب مختلفة، أما السكان فقد أشاروا إلى أن شدة البرد، لا سيما في فصل الشتاء غالبا ما تؤدي إلى عدة وفيات وعليه يستلزم على زوار أسكرام اتخاذ كل الاحتياطات من أصحاب الوكالات السياحية وعدم المغامرة مع أصحاب “الفرود”. على كل تبقى قمة جبل أسكرام ثاني أعلى قمة في الجزائر، حيث ترتفع عن مستوى سطح البحر ب2780 متر ويبعد الجبل عن مدينة تمنراست ب80 كلم، كما يبقى مقصدا مهما للسياح حيث تكتشف أسرار الطبيعة، معنى الوجود والاستمرارية والدهشة ومتعة العين، لكن يبقى على السلطات المحلية فتح مسلك للسيارات وترميم حجرات المخيم الوحيد بالجبل، وإنشاء برج بقمة الجبل بما يسهل للسياح رؤية شروق وغروب الشمس بأسكرام الذي يعني باللهجة الترڤية القمة الباردة.