كشفت الأحداث التي عاشها الشارع الجزائري مؤخرا عن وجود أزمة مجتمع مدني لا أثر له في الواقع المعيش، بمعنى أنه مجرد "غاشي" ليس هناك من يؤطّره أو ينظّم توجهاته، لأن كل مؤسساته قد تخلّت كليا عن الدور المنوط بها، وانكفأت على نفسها ما خلق فراغا رهيبا أدى إلى الكثير من الممارسات الطفيلية التي أضرت بالنسيج العام لهذا المجتمع فقد تحوّلت الكثير من فعاليات المجتمع المدني وجمعياته إلى مؤسسات ريعية للاتجار السياسي، ذات وظيفية موسمية تُستنفر فقط في المواعيد السياسية والانتخابية. من جانب آخر، كان الغائب الكبير عن هذا اللحظة التاريخية المفصلية، هو النُّخب المفكّرة التي يبدو أن تغييبها كان مقصودا ومبيّتا، الغرض منه تجريدها من كل تأثير يمكن أن تحدثه في اتجاه تغيير الأمور في الاتجاه الإيجابي. إن الوضع الذي نعيشه، بما يشوبه من اختلالات فاضحة، هو نتيجة طبيعية لفكرة الخوف من المثقفين وقادة الرأي، والنظر إليهم بعين الريبة على أنهم خصوم ومنافسون، ما أدى إلى ومحاولات تدجينهم، تغييبهم وعزلهم وحرمانهم من دورهم، في تنوير الرأي العام محليا وإقليميا.. إن تغييب دور المثقف خشية التشويش على السلطة القائمة أصبح أمرا متجاوزا وغير مفهوم أو مبرر على اعتبار أن العالم أصبح مفتوحا على الجهات الأربعة، بفضل التكنولوجيات ووسائط الاتصال الجديدة من قنوات فضائية وأنترنت، لم يعد يجدي معها الحَجر الفكري أو مصادرة حرية التفكير والتعبير، والأحرى وأولى من كل هذا هو تمكين المثقف من أداء دوره البنّاء وتبليغ أفكاره التي لا يمكن إلا أن تكون في غاية النُّبل والجمال في جو من الانفتاح والحرية والتعدد .. إنني أشدد هنا على دور المثقف العضوي بتعبير غرامشي، بوصفه مؤسّسة رمزية من مؤسسات المجتمع المدني التي لا يمكن إغفال دورها ،على الأقل كصوت للعقل والعقلانية، وقوة اقتراح نظرية، يمكنها أن تنتج الكثير من الأفكار والحلول لمشكلات المجتمع وإدارة أزماته .. إن فكرة المجتمع المدني أصبحت فكرة حيوية لا غنى عنها في المجتمعات الحديثة بوصفها الضامن الوحيد لديمومته واستمراره. تقتضي أن تؤدي كل مؤسسات المجتمع وفعالياته، بدءًا بالأسرة إلى الشارع إلى المدرسة إلى المسجد إلى الجامعة إلى مؤسسات الإعلام إلى الأحزاب والجمعيات دورها كاملا غير منقوص، جميعها على قدم المساواة، في ترقية حس المواطنة الحقّة، وتحسيس الفرد بما له من حقوق، وما للمجتمع عليه من واجبات ..بل إن بعض الدول تملك كتابات دولة ووزارات لشؤون المجتمع المدني، لما له من أهمية في الرقي بالمجتمع وتحقيق الرقي المنشود. أعود للقول بأن أزمة المجتمع المدني الغائب لا تقلّ أهمية عن أزمات المجتمع المادية الأخرى، كأزمة السكن والشغل والسكر والزيت، وغيرها بالنظر إلى أن هذا الغياب يعني غياب الثقافة المدنية وممارساتها التي تحيل على درجة كبيرة من الوعي بقيم المواطنة والتمدن والتحضر .. إن أحداث الجزائر التي سميت "بانتفاضة السكر والزيت" يجب أن تكون منطلقا لإعادة النظر في أزمة غياب المجتمع المدني والنُّخب المثقفة التي جاءت ردّات فعلها متأخرة بشكل غير مواكب لنبض الأجيال الجديدة، وهي فرصة جديدة لتفعيل دور هذه النُّخب التي تظل في حالة عطب وعطالة حتى إشعار آخر.. أحمد عبدالكريم