عيادة الطبيب النفسي آخر مكان يمكن التوجه إليه بالنسبة للعديد من الجزائريين، واللجوء إليه يأتي كحل أخير بعد استنفاد كل الطرق والوسائل التي تحل مشاكلهم، على غرار الطبيب العضوي والراقي. وبحثا عن تداعيات هذا الموضوع ارتاينا زيارة إحدى عيادات الطب النفسي في ضواحي العاصمة بداية جولتنا الاستطلاعية كانت من مدينة الرويبة، عند الدكتورة “نعيمة.ب” التي أكدت أن معظم الحالات التى تتابعها في عيادتها، تم توجيهها من المستشفيات أو عيادات الأطباء، أما الحالات التي تأتي من تلقاء نفسها فتكاد تكون منعدمة، وفيما يخص أكثر الحالات التي تواجهها في عيادتها فقد تحدثت كثيرا عن الاكتئاب والانهيار العصبي. الطبيب النفسي عندما تنقطع كل السبل بمجرد دخولنا إلى غرفة الانتظار، وجدنا صمتا رهيبا يخيم على المكان ووجوه عابسة تطبعها نظرات تائهة تحدق بعيدا وكأنها تبحث عن المجهول، لكن أكثر ما لفت انتباهنا فتاة رائعة الجمال بملامح حزينة لا تكاد الدمعة تنقطع من عينيها، التي أثارت فضولنا فانتظرنا لحظة دخولها إلى غرفة العلاج لنحادث مرافقتها ونستفسر عن حالتها. هي فتاة تدعى هبة تبلغ 18 من العمر، تداوم على جلسات العلاج النفسي من انهيار عصبي غابت فيه عن الوعي لمدة عشر أيام، ودخلت بعده في اكتئاب حاد، السبب في ذلك تعرضها لصدمة عنيفة لم تحتملها.. هبة تم اغتصابها من طرف والدها المدمن على الكحول، حدث ذلك منذ ثلاث أشهر، حيث تم تحويلها من المستشفى إلى الطبيبة النفسية، وحسب الممرضة “نادية”، هبة كانت حالتها أسوأ بكثير وهي الآن في تحسن مستمر. وجدنا العديد من الحالات التي لا تقل صعوبة عن الحالة السابقة، مثل حورية التي كانت تجلس في صمت، ومن ينظر إليها يحس أنها تريد أن تقول الكثير بعينيها. عرفنا من “نادية” أنها فقدت النطق إثر صدمة عصبية، كان السبب فيها وفاة والديها في حادث سير. “حورية“ واجهت هذا الخبر بصرخة لتكون آخر صوت يصدر عنها، فهي من بعدها لم تنطق بأية كلمة إلى حد الآن، وقد مضى شهران على الواقعة، في هذه الفترة لجأ إخوتها إلى العديد من الأطباء المتخصصين في المجال، ومن ثمّ إلى الرقاة وكان هذا آخر أمل لهم. جلوسنا في هذا المكان لمدة طويلة جعلنا نتيقن أن كل الحالات الموجودة كانت تتشابه في كونها ضحية صدمات وقصص تقشعر لها الأبدان، وهو حال قصة ”كمال” صاحب الخمس والعشرين ربيعا، حيث إنه عايش لحظات موت أصدقائه الثلاثة واحدا بواحد في عرض البحر، خلال عملية “حرقة” كانت سببا في نهاية حياتهم وبداية عذابه. “كمال” حسب رواية صديقه الذي رافقه إلى العيادة يعيش على الهامش وكأنه مغيب كليا عن الدنيا، وإحضاره إلى العيادة هو بمثابة المحاولة الأخيرة لعل وعسى يحرجه من أزمته. من خلال كل هذه الحالات وغيرها تيقننا من وجود فئة كبيرة من الجزائريين لا تزور الطبيب النفسي حتى تتقطع بها السبل وتجدها الحل الأخير، حيث لم نصادف أية حالة في هذه العيادة، لجأت إليها وقت بداية المشكلة، كلها قامت بالدورة الكاملة من الطبيب إلى الراقي وحتى المشعوذين. نظرة سلبية للطبيب النفسي لا يزال العديد من الجزائريين ينظرون إلى الطبيب النفسي على أنه يعالج المجانين، ومن يلجأ إليه ما هو إلا مختل عقلي أو شخص غير سوي. وفي الكثير من الأحيان منبوذ من طرف الجميع. هذا ما توصلنا إليه من خلال الحديث إلى بعض الأشخاص. بداية مع سعيد 28 سنة الذي لم يكترث كثيرا للموضوع، وقال إن أي طبيب لا يصف الدواء لا يرتقي لأن يفتح عيادة ويعالج الناس، وعلى حد قوله، فالناس لا حاجة لهم بالطبيب النفسي. أما حسام فبمجرد سؤالنا له عن الطبيب النفسي، أجاب بأنه لا يعرف الكثير عن الموضوع مدعما إجابته بقول “أنا لم يسبق لي وأن جننت من قبل”، وحسب هذا الأخير فإن مرتادي العيادات النفسية هم مجانين فحسب. من جانب آخر، فإن زيارة الطبيب النفسي تختص بالحالات المستعصية، هذا ما ذهب إليه بعض الأشخاص أمثال “كاتيا” و”إسراء”، فهما يريان أن هناك حالات نفسية جد معقدة هي التي تستدعي زيارة الأخصائي النفسي. يتعلق الأمر بالمشاكل النفسية التي تتسبب في أمراض عضوية. أما عن الاضطرابات الخفيفة كما وصفوها فهي لا تستدعي هذه الزيارة. أهم ما لاحظناه من خلال احتكاكنا بالكثير من الناس أن هناك خلطا فظيعا بين الطبيب النفسي وطبيب الأمراض العقلية. ربما هو واحد من الأسباب التي تجعل الجزائريين يعزفون عن زيارة هذا المكان. هذا ما ذهبت إليه الآنسة “زوليخة” طالبة علم النفس في جامعة الجزائر، فهي تدعو إلى توعية المواطنين حول هذا الموضوع لتجنب الالتباس الذي يجر وراءه عدم ثقة الناس في كفاءة الطب النفسي. الراقي يستحوذ على زبائن الطبيب النفسي أصبح أول مكان يتوجه إليه الجزائريون عندما يحسون بتوتر أو مشكل يعيق صفاء حياتهم النفسية، هو الراقي الذي احتل مكانة جد مهمة في مجتمعنا خاصة في الآونة الأخيرة، فمن يزور الراقي يجد قاعة الانتظار لديه لا تخلو من شتى أنواع المشاكل النفسية. وفي هذا السياق، ربط الكثير من الأشخاص لجوءهم إلى هذا المكان بالعقيدة والوازع الديني، على غرار “سميحة“ التي قالت بأنها كانت تعاني من الكثير من الاضطرابات النفسية، وفي كل مرة تستعين بالراقي تلمس تحسنا في حالتها، ونفس الموضوع فهي لم تفكر أبدا في اللجوء إلى الطبيب النفسي، لأنها تعتبر الرقية والاستماع إلى القرآن الكريم أفضل علاج للنفس الإنسانية. من جهتها “الحاجة زهرة” ترى أن كل مشاكل الإنسان تزول بالرقية والقرآن الكريم، وعن الطبيب النفسي تقول إنه لا يمكن أن يفوق علمه قدرة من يعالج بكلام الله، هي طريقة تفكير الكثير من الأشخاص فهم يربطون دائما زيارة الطبيب النفسي بالراقي، ويحاولون المقارنة بينهما في حين هما يمارسان عملين مختلفين، ولا علاقة لما هو علمي بما هو عقائدي وروحاني، كما جاء على لسان السيدة” نورية.ح” التي تحدثت عن وجود خلل على مستوى تعامل الأشخاص مع الطبيب النفسي والراقي على حد سواء. وفي الوقت الذي يعتبر فيه الكثيرون أن الرقية تعالج المشاكل النفسية، هناك العديد من الحالات التي استعصت على الرقاة ومشاكل لم يقهرها سوى الطبيب النفسي، مثل حالة سعاد التي كانت تعاني من أعراض تشبه كثيرا تلك المتعلقة بالصرع، حيث شخّصها الكثيرون على أنها مسّ من الجن، غير أن علاج الراقي لم يجد مع حالتها إلى أن توجّهت إلى الأخصائي النفسي الذي عالجها خلال خمس جلسات. وعلى الرغم من هذه الأفكار السائدة حول زيارة الطبيب النفسي، إلا أننا نشهد في الوقت الحالي بداية محتشمة لتقبل فكرة زيارة عيادة الطبيب النفسي، خاصة عند فئة الشباب والمثقفين.