يقول سيدي داود الطائي رحمه الله تعالى: التفت إليَّ يوماً الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وقال: يا داود، قلت: لبيك وسعديك وعلمت من خلال هذا النداء سيحدث أمر هام يتعلق في موضوع الدراسة، ينبغي الانتباه له . فأعرت أذني لأسمع، وفتحت قلبي لأعيَ، كما هي عادتي، فقال: يا بني أما علم الآلات فقد أحكمناها إحكاماً جيداً وأتقنَّاها إتقاناً حسناً، بفضل من الله تعالى ونعمة، وهي وسائل الوسائل. قال داود: فما بقي إذاً يا سيدي؟ قال أبو حنيفة: العمل بما علمناه. قال داود: فأخذت أفكر وأفكر طويلاً، بما تحمل هذه الجملة من معانٍ ومعان. وهي تجول في خلدي ليل نهار، حتى أقضَّت مضجعي، وهزت مشاعري. فبينما أنا في هذا الحال، وإذا بامرأة أتت تسأل أبا حنيفة عن مسألة، فأجابها. فأعجبت بحسن الجواب، فنطقت قائلةً: وأنا أصغي إليها هذا العلم يا سيدي فأين العمل؟ فاتفقت الجملتان، وتلاقتا في المعنى، ووقعتا في قلبي وقوع الصاعقة. اه. أتدري ماذا حدث لداود من إثر هذا؟ إنه قد اعتزل وتزهَّد، وتنسَّك وتعبَّد، وانقطع عن المخلوقات حتى صار فحلاً من الفحول، وعظيماً من العظماء. فكان الغالب عليه الحزن، فيقوم بالليل ويناجي ربه قائلاً: إلهي همُّك عطَّل عليَّ الهموم، وحال بيني وبين الرقاد، وشوَّقني إلى النظر إليك، ومنعني اللّذات والشهوات، فأنا في سجنٍ طويل، يا كريم، يا أرحم الراحمين. حاله العجيب: كان إذا خرج مشى في الطريق المهجورة البعيدة عن ممرَّ الناس، فيقال له: الطريق من هاهنا أقرب. فيقول: فِرَّ من الناس فرارك من الأسد. وكانت النملة تدور في وجهه طولاً وعرضاً، فلا يفطن لها من الهمِّ والتفكير. وقال يوماً لسفيان الثوري وما أدراك ما سفيان؟ : يا سفيان إذا كنت تشرب الماء المبرَّد، وتأكل اللذيذ المطيَّب، وتمشي في الظلِّ، فمتى تحبُّ الموت، والقدوم على الله؟ فبكى سفيان بكاء الثكلى من تلك الكلمات التي نبعت من أعماق قلبِ مليءٍ بالإيمان، عريقٍ بالصدق والإخلاص، تستدرُّ الشؤون وتُبكي العيون.