أعترف أن المادة الإعلامية التي تثير شهيتنا للكتابة أكثر، (نحن الجرنالجيّة)، هي فضائح وعثرات وكواليس القطاعات التي نهتم بشؤونها. ولا أدري إن كانت هذه الشهية المفتوحة على رصد أخطاء "الفَوق"، نتاج طبع دونكيشوتي أم هي خصوصية حرفة الحكي، التي يرى الناقد المغربي، عبد الفتاح كيليطو، أنها سلاح الضعفاء. يشدّد كيليطو على أنّ عدداً لا يستهان به من المحكيات رُويت أو كُتبت بناء على أمر، على طلب وبإذن من الملك. وبأن المثال الأكثر رمزية يوجد في "ألف ليلة وليلة"؛ حيث أن شهرزاد مدينة بحياتها، ليس لحيلتها وموهبتها الحكائية فحسب، لكن أيضا وخصوصا لكون الملك شهريار يأذن لها كلّ ليلة بمواصلة حكاية الليلة الماضية.. وقد لا أبالغ إذ قلت - استنادا إلى ما ذهب إليه الرائع كيليطو - إن أغلب الجرنالجية مدينون بحياة قلمهم ولياقتهم الكتابية، ليس لحنكتهم وقدرتهم على الكتابة، لكن أيضا وخصوصا لكون "شهريارات السلطة"، يأذنون لهم (ضمنيا) كلّ يوم بمواصلة حكاية اليوم الماضي، من خلال توفير المادة الإعلامية المثيرة التي تنتجها تحرّكاتهم السلبية قبل الإيجابية. يؤكّد كيليطو أنّ المؤلفين الكلاسيكيين (الحريري، الجاحظ، التوحيدي) يعلنون أنّ مؤلفاتهم تلبّي أمر سلطة ما، شريك ما حقيقي أو متخيّل، على شاكلة أمر "اكتبْ!" الذي يحاكي أمر "اقرأ".. فالمسألة إذن (أقصد مسألة علاقة الصحافة بالسلطة)، لا تتعلق بندٌين، بل هي علاقة مُتحرّك مع راصد، علاقة التحت مع الفوق.. علاقة ضعيف مع قويّ.. يرى كيليطو، محيلا على كتاب "كليلة ودمنة" في فصله الأول، أنه إذا كان الخصمان متكافئين "ابنا آوى مثلا" فإنهما يتبادلان الحكي والأكثر إقناعا يفوز، أما لو كان أحدهما ابن آوى والآخر أسدا، يصبح الوضع تراتبيا. ويتساءل كيليطو: من سيحس آنئذ بالحاجة إلى الحكي؟ بالتأكيد ذاك الذي يحس أنه الأدنى، فما حاجة الملك إلى السرد في حين أن بمقدوره بخبطة واحدة من كفه إهلاك مخاطبه ؟ لا تدخلوا الديمقراطية في وسط المسألة، القضية كانت ولازالت منذ الأزل، قضية علاقة عمودية بين شهريار الآذن بالحكي وشهرزاد المجبرة على الحكي.. عشية الاحتفال باليوم العالمي لحرية التعبير، نقول للحكّائين، كلّ عام وحريّتهم بألف بخير.