حين طغت مصلحة الشيوخ على مصلحة الشباب ضاع الأفالان حاولنا من خلال هذا اللقاء الشيق، الذي جمع ”الفجر” مع الفنان عبد الله مناعي المبدع في فنه وفي أخلاقه، أن نسلط الضوء على أهم المحطات التي مرّت عليه منذ دخوله إلى عوالم الفن بعد استقلال الجزائر وحتى يومنا هذا فكان هذا الحوار.. كثير من الفنانين الجزائريين اليوم يحسدون عبد الله مناعي على هذا الزهد الذي يمارسه في الفن، ما السر وراء ذلك، ولماذا تختفي خلف الأضواء في الوقت الذي يبحث الكل عن قامة كبيرة مثلك لازالت محافظة على أصالة وعراقة الأغنية الجزائرية؟ أنا فنان بالهوية، والهوية هذه تطلب مني أن أعرف قدر نفسي وإمكانياتي، لهذا أنا لا أشارك في الكثير من التظاهرات ولا أطلب منهم أن يبرمجوني وأتوسل المنظمين في التصدق عليَّ بحفل أو حفلين. البعض يعتبر هذا زهداً، أما أنا فأعتبره احتراما لمساري الفني الذي عملت منذ حوالي خمسين سنة على إيصاله لما هو عليه اليوم. وهذا أيضا متعلق بتعاملي مع الصحافة، أنا لا أطلب الظهور على شاشة التلفزيون أو عبر أمواج الإذاعات أو الصحف، فمن أراد مناعي فأنا موجود في أي وقت شاء، وإذا لم يرغب في استضافتي فأنا أشكره أيضا. تجربتي هي التي تفرض نفسها في الساحة، وقبل ذلك على الجمهور الذي يحب الطابع الذي أقدمه واشتهرت به، لهذا أعمل حين يطلب مني ذلك وأعمل دون أي شروط أو معرفة المبلغ الذي سيدفع لي أو أن أقوم بتوقيع على أي وثيقة، فكلمتي هي رأس مالي وبها أعمل منذ انطلقت في عالم الفن ولحدّ اليوم. لو عدنا بك إلى الوراء، هل كنت لتختار البقاء في الغربة وصناعة نجومية أخرى كما يفعل عدد من الفنانين الجزائريين الذين أتيحت لهم الفرصة لذلك أم كنت لتعود كما فعلت قبل أكثر من خمسين سنة من الآن؟ قبل أن أجيبك عن هذا السؤال أود أن أوضح للقراء الكرام أنّ عودتي إلى الجزائر جاءت كقرار لإخراج الأغنية الجزائرية التي كانت مخزونة قبل الاستقلال وبقيت بعده أيضا. فأغلب الفنانين الجزائريين بعد الاستقلال حاولوا أن يشوهوا الأغنية الجزائرية، والابتعاد عنها وأنا مثلهم أيضا كنت أتخلى عن الأغنية الجزائرية وأحاول تقديم أغان لصباح فخري وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعمالقة الأغنية العربية آنذاك، لكني لم أكن أقدم على تقديم الأغنية الجزائرية كغيري من فناني ذلك الجيل، لكن ومع مرور الوقت تغيرت نظرتي تجاه هذا الفن وقررت أن أقدم أغاني مستوحاة من التراث الجزائري أعبر فيها عن أصالة وعراقة الأغنية الجزائرية. أما بخصوص سؤالك فأنا لا أرى أي فنان جزائري وصل إلى النجومية التي تتحدثين عنها في سؤالك، لأن النجومية لها مقوماتها الخاصة التي يفتقد إليها من يدعون أنهم وصلوا لها. مشكلة الفنان الجزائري أنه يمتلك مقومات ومواصفات العالمية، لكنه تخلى عنها بمجرد تخليه عن وطنه ولهثه وراء شركات الإنتاج الأجنبية التي تجعله يبيع ضميره ونفسه، نحن فعلا نمتلك لغة عالمية وفنا عالميا، لكننا تخلينا عنه.. أغلب الفنانين سعوا لدخول العالمية من الأبواب الخاطئة، لهذا أصبح محيطنا الفني بعيدا كل البعد عن العالمية. كثيرون يعتقدون أنّ من غنى في عدد من العواصم العالمية فهو فنان عالمي، وهذا خطأ فادح، فليس كل من زار العالم أصبح فنانا عالميا، شخصيا أرى أن الفنان حتى يصل إلى العالمية هو أن يقدم أغاني بهويته الأصلية لا هويته المزيفة التي يلبسها بمجرد وصوله لمطارات العالم، وهذا الفنان المحافظ على هويته المحلية هو الفنان المصنف في خانة الفنان العالمي كفيروز، التي أصبحت فنانة عالمية بأغانيها الفلكلورية بالإضافة إلى صباح فخري وغيرهم من الفنانين العرب الذين نفتخر بما قدموه في مختلف المحافل العالمية، دون أن يتخلوا عن تراثهم وفلكلورهم المحلي، هؤلاء في نظري هو العالميون وليس خالد ومامي ورابح درياسة ولا أعرف من أيضا من فنانينا الذين يدعون بأنهم فنانون عالميون. ما رأيك في ما يقدم اليوم في الساحة الفنية خاصة في طابع الأغنية الرايوية؟ أصبحت أتحسر على ما آلت إليه الأغنية الرايوية، التي قتلها هذا الجيل من الفنانين، الذين أصبحوا مؤدين ليس إلا، هناك طاقات فنية كبيرة لعدد من الفنانين الذين يمتلكون المؤهلات التي تسمح لهم بأن يكونوا نجوما عالميين حقيقة، لكنهم سقطوا في قبضة الاستغلاليين الذين قدموهم كمؤدين لا كمدارس فنية يمكن الاستفادة منهم في المستقبل. فمثلا الشاب خالد له من المقومات ما يجعله مدرسة للأغنية الجزائرية، لكنه وبدل الاستثمار في إمكاناته تخلى عن هذه الصفة، وأصبح يقدم فنا لا علاقة له بالأغنية الجزائرية الأصيلة، وبهذا فقدت الجزائر مدرسة كان يمكن أن يتخرج منها عمالقة للفن الجزائري، وأنا لا أحمل الشاب خالد وزر هذا الوضع، لكنني أحمله للجيل الذي كان قبله وعجز عن صناعة فنان جزائري حقيقي منذ ما يزيد عن 30 سنة. منذ زمن الاستقلال إلى اليوم، كثيرون مروا في حياتك على المستوى الفني.. إلى أي زمن تحن أكثر وأي زمن كان زمن الأغنية الجزائرية الحقيقي؟ أحن إلى زمن كان فيه الفنان يخجل من الظهور أمام جمهوره ومحبيه بأغاني غيره، وأعتقد أن ذلك الزمن هو الذي على كل فنان محترم أن يحن إليه، كزمن بلاوي الهواري، أحمد وهبي وزمن العنقى ووو.. ردك هذا يقودني إلى سؤالك عن رأيك في ظاهرة التقليد الأعمى للجيل الحالي من الفنانين لأغاني غيرهم، سواء على مستوى اللحن أو الكلمات أو الأداء وحتى إعادة أغان تراثية ونسبها لأنفسهم؟ غياب الرقابة في الجزائر هو الذي جعل هذه الظاهرة تتفاقم أكثر مما كانت عليه في السابق، وهي في تزايد مستمر جعل كل من هب ودب يغني، ففي كثير من الأحيان يجد الفنان نفسه في موقف محرج جراء تقديم أغانيه بصورة مشوهة في حفلات وألبومات لصوص الفن، ولكنه يبقى عاجزا عن الدفاع عن نفسه وعن فنه، وبالإضافة إلى غياب الرقابة القانونية التي كان عليها أن تلعب دورا هاما وحاسما في هذه القضية منذ بدايتها، إلا أن الإعلام الوطني له يد في تفشي هذه الظاهرة أيضا، فأصبحنا نلاحظ نفاقا إعلاميا كبيراً يمارسه بعض الإعلاميين تجاه الفن والفنانين من خلاص صمتهم على ما يقدم في الساحة الفنية ومحاولة جعل اللصوص في الواجهة على حساب الفنان الحقيقي. هل أفهم من كلامك أن الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة لم يلعب دوره الحقيقي معكم؟ دعيني هنا أتحدث عن نفسي وعن معاناتي مع هذه المؤسسة التي سرقت حقوقي الفنية، وعمل القائمون عليها على خراب البلاد، فأنا متواجد في الساحة الفنية منذ ما يقارب الخمسين سنة، وطوال هذه الفترة لم آخذ ولا سنتيما واحدا منهم، فأي ديوان هذا وأي مؤسسة حكومية هذه التي تعمل على تشويه صورت الفنان الجزائري، أحيانا أتساءل أين هم مراقبوها وأين هم العاملون فيها مما يحدث في الوسط الفني من سرقة وقرصنة وهضم حقوق الفنان الجزائري، فأغلب العاملين في هذه المؤسسة لا علاقة لهم بالتراث والبحث والتدقيق فيه لمعرفة أي الأغاني هي ملك للذاكرة الوطنية، أي الأغاني هي مسروقة، فعملهم للأسف الشديد يتم عن طريق طرح الأعمال التي تقدم لهم لتسجيل حقوقها على أشخاص مقربين كأوليائهم والكبار في السن، وعلى هذا الأساس تسجل حقوق الفنان في الجزائر، وعلى هذا الأساس تم رفض أغلب إنتاجي الفني الذي يمتد إلى 40 سنة، وتم قبول أغنيتين لا أكثر من قبلهم، فهل سأأتمن مؤسسة كهذه على مستقبل الفن الجزائري؟؟ بالتأكيد لا. مسألة توريث الفن للأبناء أصبحت ظاهرة جزائرية بامتياز، هل ورث عبد الله مناعي أحدا من أبنائه هذا الفن وما رأيك في هذه القضية؟ لا أبدا، أنا ضدّ هذه المسألة، فالفن ليس دبلوما يأخذه الفنان من والده أو والدته.. بل هو إحساس، لهذا أنا ضدّ هذه الظاهرة، ولعل النماذج الموجودة اليوم في الساحة الوطنية خير دليل على فشل هذه الظاهرة.. كانت لك تجربة تقديم ديو مع الفنانة الكبيرة هيام يونس ومنذ تلك التجربة لم تكررها ما أسباب ذلك؟ لا يوجد سر في ذلك، فالتجربة التي قدمتها في سنة 1984، كانت بطلب منها، وتم ترتيب لقاء لتقديم هذه التجربة، وساعدني فيها لخضر بن تركي ومحمد بوليفةو حيث قمنا بتصوير الأغنية على شكل فيديو بعدما رفض التلفزيون الجزائري مساعدتنا في تصويرها، لكن إصراري على فعل ذلك جعلني وبن تركي وبوليفة نقوم بكراء مطعم بالعاصمة وكراء كاميراتين وصورنا العمل، لكن بعد سماع القائمين على مؤسسة التلفزيون بهذه التجربة سارعت لسرقة الفيديو وبثه منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا دون منحي حقي القانوني. كيف هي علاقتك بالسياسة وما رأيك في موجة الفنانين الذين يلهثون خلف البرلمان؟ أنا فنان والفنان عليه أن يحافظ على ما كسبه من ودّ ومحبة الجمهور له، والسياسة حين تختلط بالفن لن يصبح الفن بخير ولن تصبح السياسة كذلك، لهذا أنا لا تربطني أي علاقة بالسياسة منذ الثمانينات حين كنت مناضلا في حزب جبهة التحرير الوطني، ومع ذلك لم أكن لأخلط بين السياسة وبين الفن كما يحدث اليوم، وأنا أعتبر الذين يلهثون خلف كرسي البرلمان أكبر المنافقين. ومع ذلك قدمت أغنية لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، ألا يعتبر ذلك خلطا بين الفن والسياسة؟ أنا أعتبر من الفنانين القلائل الذين عايشوا أغلب رؤساء الجزائر المستقلة، وأقول أن ما أعيشه في عهد رئيسها الحالي هو أكثر الفترات التي تجعل المواطن الجزائري يفتخر بوطنه وبرجالها، وشخصيا أقدر كفنان وكمواطن هذا الرجل الذي أعطى الكثير للجزائر ولا يمكن إلا لجاحد إنكار ما قدمه الرجل، وأنا من منطلق أنني فنان قدمت له أغنية وأعتز بهذه التجربة. باعتبارك مناضلا سابقا في حزب جبهة التحرير الوطني، ما رأيك في الأوضاع التي يمر بها الحزب في الفترة الأخيرة وهل أنت مع الفكرة التي تنادي بضرورة بقاء الرعيل الأول لهذا الحزب على رأسه على حساب المناضلين الشباب؟ حين طغت مصلحة الشيوخ على مصلحة الشباب ضاع الحزب بين المصالح الشخصية لهؤلاء وبين طموحات المناضلين الشباب الذين من حقهم اليوم أن يأخذوا المشعل وأن يقودوا البلاد وطموحاته. حاليا أنا ابتعدت عنه ولا أعرف ما يحدث في كواليسه، لكنني على يقين تام بأن هؤلاء القادة الكبار الذين يتحكمون في زمام هذا الحزب قد أقسموا على ألا يدخلوا لجنة وأن يدخلوا الأفالان، وحين نتمعن في هذا الكلام الذي لا يترددون في الإعلان عنه أتحسر وأصمت، لأن الحديث مع هؤلاء قد يأخذ إلى ما لا تحمد عقباه، وأنا في الأول والأخير سأبقى فنانا لا أكثر ولا أقل.