تواصل "الفجر" نشر مقتطفات من شهادة محمد بوضياف التي ضاقت بها الذكرى ال 25 للثورة قبل 33 سنة! ونتناول اليوم في الحلقة الثالثة والأخيرة (*) الأزمة السياسية التي مست جميع الأحزاب في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.. وأهم أطوارها وسط أهم هذه الأحزاب: حزب الشعب، حركة الانتصار، هذه الأزمة التي مكنت الجناح الثوري في نهاية المطاف من "تحرير" المناضلين وقيادتهم في معركة الشرف والحرية وبفضل هذه الأزمة اكتشف بوضياف ورفاقه أن فكرة "الزعيم" مصالي عن الثورة كانت "غامضة وبسيطة" وكيف نبهوا "الزعيم" إلى مغبة طرح خلافه مع الأمانة العامة على المناضلين في القاعدة. كما نتناول الأطوار الأخيرة لتحضير الموعد التاريخي وساعة الصفر: البحث عن الواجهة السياسية، ومضمون الحركة الجديدة وتسميتها، ومشاكل التمويل والتسليح.. ونعرّف بالمناسبة أن محمد يزيد أحبط المحاولة الأولى لإعلان الثورة في 15 أكتوبر! ما دفع "لجنة الستة" إلى تحديد تاريخ ثانٍ: ليلة فاتح نوفمبر 1954.. وقد ارتأينا بمناسبة الذكرى الخمسين للاستقلال دائما أن نعيد نشر وثيقة تاريخية نادرة: رسالة بوضياف التي بعث بها من العاصمة السويسرية (برن). إلى الوفد الخارجي بالقاهرة في 29 أكتوبر 54.
إعداد محمد عباس
الرد الشعبي على أزمة الحزب "أتتخاصمون بينما يموت الثوار في تونس والمغرب؟!" كانت الوضعية السياسية بالجزائر مطلع الخمسينيات في حالة انسداد خطير، بسبب تطرف إدارة الاحتلال وإفراغ الانتخابات من محتواها، بالإمعان في التزوير على أوسع نطاق: على سبيل المثال لم يفز في تشريعيات 1951 أي مرشح عن الأحزاب الوطنية، ممثلة أساس في حركة انتصار الحريات الديمقراطية والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الانسداد على الحركات السياسية عامة، بدءا بحركة الانتصار التي عاشت موجة استياء وملل، بعد تعطل الاختيار الثوري مؤقتا من جهة، وخلافاتها الداخلية حول سياسة التحالف مع الحركات الأخرى من جهة ثانية. ولم يكن حزب البيان والحزب الشيوعي في هذا السياق بأحسن حالا: لقد طالت أزمة الثقة العميقة وسط الجماهير تجاه الأحزاب السياسية الجميع بدون استثناء، لأنها كانت في حالة جمود تقريبا، عاجزة أو مترددة عن تقديم طريق واضح لتحرير البلاد من الاستعمار، كانت الجماهير يومئذ واعية بحالها، لكنها لم تكن تجد الجواب الشافي لما تطرح هذه الحالة من تساؤلات لدى أي حزب. وقد ازدادت أزمة الثقة هذه حدة، بعد انطلاق الكفاح المسلح بكل من تونس والمغرب. في هذه الظروف السياسية المتأزمة، جاء مؤتمر حركة الانتصار في أبريل 1953 ليزيد الطين بلة، طبعا ما كان "للثقال" أن يشاركوا في أشغاله، مثلا انتخب بن مهيدي بوهران ضمن المندوبين.. لكن بسبب كونه متابعا من مصالح الأمن فضّل التنازل لرمضان بن عبد المالك، فكان بذلك من الأصوات النادرة للجناح الثوري في المؤتمر، وقد طرح فعلا قضايا توجيه الحزب وحل المنظمة الخاصة، وضرورة التغيير...إلخ. وزاد القانون الأساسي الذي صادق عليه المؤتمر من تفاقم الأزمة الكامنة بين الأمانة العامة برئاسة بن يوسف بن خدة وزعيم الحزب الحاج مصالي فنتائج المؤتمر لم تكن في صالح الزعيم: الحد من صلاحياته بموجب القانون الأساسي الجديد، وإسقاط أهم أنصاره من تشكيلة المكتب السياسي، لا سيما أحمد مزغنة ومولاي مرباح. طرح مصالي مشكلته مع الأمانة العامة أو ل مرة نهاية 1953، خلال ندوة إطارات اتحادية الحزب بفرنسا، في رسالة تليت على المشاركين بالمناسبة. عقب ذلك كثفنا من اتصالاتنا به، عبر قناة أحد ثقاته عبد الله فيلالي، لمعرفة ماذا يريد بالضبط، وإن كان يفكر في الثورة بجد، طرحنا عليه أسئلة محددة "ماذا يريد أن يفعل؟ ماذا يقصد بالثورة التي يتغنى بها؟ ومتى ينوي إعلان هذه الثورة؟. اكتشفنا أن الرجل يحمل عن الثورة فكرة بسيطة، وكان يختزل الجواب على أسئلتنا في العبارات التالية: "اتركوا هذا الأمر اليّ! نبهنا مصالي بو اسطة فيلالي دائما بأننا نظل محافظين على التزامنا في القاعدة دون اتخاذ موقف، إذا التزم من جانبه بحصر الخلاف في الدوائر القيادية، مرد هذا الموقف تخوفنا من تمزق صفوف المناضلين، بفعل خلافات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فصلا عن صرفهم بذلك عن المشاكل الحقيقية كان من الطبيعي أن نغار على حزب، ضحينا بالكثير في سبيله، لكن أصحبنا نشعر أن مصالي بات مستعدا لتحطيم هذا الصرح، لمجرد استعادة سلطته عليه، وكان هذا الشعور يؤلمنا أشد الألم. لم يراع مصالي إشاراتنا فخرج بالخلاف إلى ساحة المناضلين العريضة، وتمكن فعلا خلال يناير فبراري 1954 من اكتساح قاعدة اتحاد الحزب بفرنسا، ماعدا خلايا محدودة بكل من ليون ومرسيليا وشوسو دون أن ننسى الإطارات الدائمة التابعة إداريا إلى الأمانة العامة. غير أن النتيجة بالجزائر كانت دون ذلك ربما بسبب غياب مصالي، فضلا عن اختلاف اهتمامات المناضلين ودرجات وعيهم. حاولت الأمانة العامة في البداية مواجهة هجمة "أنصار الزعيم"، لكنها أدركت بسرعة أن حظها ضئيل مع القاعدة النضالية، ولعل هذا ما يفسر تراجعها عن اختيار المواجهة، وتنازلها في أواخر مارس (1) عن صلاحياتها لمصالي، على أساس الاحتكام لمؤتمر جامع، يعقد خلال 3 أشهر، مع تسليمه 5 ملايين فرنك (قديم) لهذا الغرض... طبعا كان تظور الأزمة على هذا النحو وانعكاساتها في الشارع مثار ألم وحسرة على صعيد الرأي العام الجزائري الذي كان لسان حاله ينطق بالعبارة التالية: "أتتضاربون فيما بينكم، في حين أن الأبطال الوطنيين بتونس والمغرب يبذلون دماءهم لتحرير بلادهم؟!" الدباغين... يخيّب ثقة الثوار فيه دخلت لجنة الستة (2) ابتداء من مستهل سبتمبر 1954 مرحلة التحضير المكثف للثورة كان عليها أن تجد حلولا عاجلة لأهم المشاكل: واجهة الحركة الوليدة، مضمونها السياسي، التمويل، تاريخ الانطلاقة، تكوين وتسليح الأفواج الأولى لتكون في الموعد.. 1 الواجهة السياسية: كنا نحن الستة شبه نكرات لدى الرأي العام الجزائري والدولي، وحتى في أوساط المناضلين كان أكثرنا معروفين بأسماء مستعارة فقط، حفاظا على أنفسنا ما أمكن من آلة قمع شرسة تطاردنا باستمرار، لذا فكرنا في حامل راية معروف، يمكن أن يساعد حركتنا على كسب تعاطف والتفاف الجماهير حولها. وقع الإختيار للوهلة الأولى على الدكتور محمد الأمين الدباغين، لما يتميز به من استقامة أخلاقية وسياسية فضلا عن نزاهته وكفاءته.. فقد كان شخصية سياسية مرموقة، تركت حزب الشعب حركة الانتصار في أواخر 1949، مع الاحتفاظ بكامل سمعتها. اتصلنا به في عيادته بالعلمة (سطيف)، لكنه لم يبد كبير استعداد للالتزام مع حركتنا هذه التجربة الفاشلة جعلتنا لا ننتظر شيئا من الشخصيات السياسية لتلك الفترة. 2 المضمون السياسي: كان علينا أن نتعمق قليلا في مضمون الاستقلال على الصعيدين الإقتصادي والاجتماعي، ولا نكتفي بالاستقلال كمجرد مطلب، كما درج حزبنا على ذلك، وكما جاء ذلك أيضا في بيان فاتح نوفمبر 54 الذي لم يكن واضحا تمام الوضوح في هذا الشأن. الشكل التنظيمي وخطة العمل: قررنا إظهار حركتنا باسم "جبهة التحرير الوطني"، ذراعها العسكري باسم "جيش التحرير الوطني" ووضعنا خطة عمل ترتكز على: مبدأين أساسيين: اللامركزية وأولوية الداخل على الخارج. تقسيم البلاد إلى ستة مناطق توزيع المهام بين الأعضاء الستة، وكلفت شخصيا كمسؤول وطني بنقل وثائق الحركة الوليدة إلى الوفد الخارجي، على أن أعود إلى الجزائر في يناير 1955. استراتيجية المراحل الثلاثة التي تم إقرارها بعد نقاش طويل: المرحلة الأولى: تتمثل في إقامة الجهاز العسكري والسياسي، لتحضير العمل العسكري وضمان انتشاره، وهدف هذه المرحلة سياسي بالدرجة الأولى، إشعار المواطنين بمعنى الثورة وطبيعتها وأهدافها وهي مهمة تؤديها الخلايا السياسية والطلائع المسلحة معا.. المرحلة الثانية: تعميم الإخلال بالأمن ويتم بالتوزاي مع ذلك على الصعيد السياسي: 1 تنظيم المواطنين وادماجهم في العمل، عبر المشاركة في أساليب النضال الجماهيري: مظاهرات، اضرابات، حملات عصيان مدني... 2 إشراك المواطنين كذلك في مهام الإدارة والعدالة المراحلة الثالثة: إقامة مناطق حرة محمية، في مأمن تام من العدو، أثناء هذه المرحلة تذوب المظاهر العسكرية والسياسية في مختلف أجهزة السلطة الثورية، كترجمة أولى للمؤسسات التي تقود البلاد بعد الاستقلال. 4 الأموال والسلاح: تركت هذه المهمة لمبادرة كل منطقة، وكان أهم مخزون للأسلحة بالأوراس، ويتكون من نحو 300 قطعة من بقايا الحرب العالمية الثانية. وينبغي أن نذكر في هذا الصدد بأن جهودنا واتصالاتنا بالخارج خابت كلها للأسف، فلم تدخل الجزائر قطعة سلاح واحدة قبل فاتح نوفمبر 54 . وهذا ما اضطر منطقتي وهرانوالجزائر إلى المشاركة في إعلان الثورة بنحو 10 قطع، في حالة سيئة وبعضها بدون ذخيرة، وكان بن ميهدي قائد المنطقة الخامسة يحمل مسدسا قديما عيار 7.65 مم، ليست في خزنته غير رصاصتين. 5 تاريخ الثورة: اتفقنا في البداية على تاريخ 15 أكتوبر، وأشعرنا الوفد الخارجي في القاهرة بذلك، ويكون الوفد أبلغ علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال المغربي، وصادق أن قابل أمحمد يزيد هناك فأثار معه الموضوع، ظنا أن يزيد من جماعتنا، وسارع هذا الأخير بإخطار رفاقه في اللجنة المركزية، فطلبوا الاجتماع بنا فورا. اجتمعنا مع لحول ويزيد بمنزل أحمد بودة (وادي كنيس) فعتبا علينا رفضنا الإلتحاق بصفوفهم، وما يثار من إشاعات مخيفة حول تاريخ 15 أكتوبر، زاعيمن أن الوفد الخارجي لا يساند ما نسعى إليه. حاولنا جهدنا مجاراة المركزيين وتطمينهم ويندرج في هذا السياق اتفاقنا معهم، على إرسال وفد مشترك إلى القاهرة، من لحلو ويزيد، وأنا شخصيا عن "الحياديين" كما يسموننا، وهذا مايفسر وجود لحلو ويزيد بالقاهرة ساعة اندلاع الثورة، كان بالقاهرة أيضا بالمناسبة كل من مزغنة وعبد الله فيلالي، في محاولة اقناع الوفد الخارجي بالإلتحاق بمصالي، أو طرده من مكاتب لجنة تحرير المغرب العربي، وبناء على تفشي سر تاريخ 15 أكتوبر، اختارت لجنة الستة تاريخ فاتح نوفمبر الموالي دون إشعار أحد بذلك هذه المرة. هكذا اندلعت الثورة في ظل السرية التامة، ثورة سمحت للجزائر بعد حرب ضروس مريعة، دامت أكثر من سبع سنوات، من التخلص من استعمار 132 سنة. (انتهى) (*) طالع "الفجر" عددي 11 و 18 يوليو الجاري (1) كان ذلك في أجواء تأسيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل، ما جعل المصاليين يعتقدون خطأ أن اللجنة مجرد صنيعة للجنة المركزية. (2) أي بوضياف، بن بولعيد، بن مهيدي، ديدوش، بيطاط، كريم الذي التحق بالخمسة في أواخر أوت حسب شهادة بوضياف.
وثيقة: رسالة بوضياف إلى الوفد الخارجي عشية اندلاع الثورة
برن 29 أكتوبر 1954 إخواني الأعزاء.. أكتب إليكم إضافة إلى برقية أمس التي مازلت انتظر جوابكم عليها كي تتدخلوا بسرعة لدى السلطات المصرية للتعجيل بإجراءات التأشيرة. وأحيطكم علما أنني سأجدني في وضعية مالية حرجة (*)، إذا لم أحصل على التأشيرة خلال ثلاثة أيام، أي قبل يوم الإثنين. وأود أن أحيطكم علما من جهة أخرى بالوضعية كما تركتها، سيتم الختان على الساعة الأولى من فاتح نوفمبر (مساء 31 أكتوبر) كما سأفصل لكم ذلك غدا في برقيتي إليكم. لقد احتفظنا بسرية هذا التاريخ تجنبا لأي تسريب، كما حدث ذلك من قبل عقب عودة الزبير (1)، مما أدى إلى ردود فعل سيئة من اللجنة المركزية، سأوفيكم بتفاصيلها عندما أصل بينكم، وبحضور ممثلي هذه الهيئة وبودي إبلاغكم بأن نداءات للشعب تجدون نسخة منها مرفقة بالرسالة ستبث عند الاندلاع في مختلف انحاء البلاد، يتلوها بعد بضعة أيام بيان يحدد موقفنا من الصفين (2) أن الإخوة في الداخل حريصون جدا على استقلاليتهم، ولا يقبلون إشرافا من أحد، لذا ينبغي أن يكون موقفكم منسجما مع ما تقرر، لتجنب أي سوء تفاهم، قد يشكل خطرا على مستقبل العمل، وسأوضح لكم عند حلولي بينكم ضرورة الإلتزام ماأمكن بموقف مدروس بعناية، نظرا لموقف الصفين خاصة، فضلا عن الحالة الذهنية للمناضل والشعب اللذين يدينان الطرفين. وفي انتظار ذلك، كلفوا واحدا منكم، بعمل ما ينبغي عمله عبر (إذاعة) صوت العرب، من الأفضل طبعا تلاوة نص النداء، وإلا، أعدوا نداء من جانبكم مع الاستشهاد بفقرات من ندائنا، يستحسن أن يتم ذلك مساء الإثين (فاتح نوفمبر)، وسيقدم لجماعتنا دعما حقيقيا جزاء ما أنجزوا من عمل. سيكون الحديث باسم هذا العمل في الخارج حكرا على ثلاثتكم(3) دون سواكم، هذا ما تقرر إلى حد الساعة، سأوافيكم قريبا في القاهرة بمزيد من من التفاصيل. إلى اللقاء.. تحياتي للجميع الطبيب (*) ملاحظة: إذا رأيتم أن إجراءات التأشيرة تستغرق مدة أطول، فأبذلوا ما في وسعكم لإرسال بعض المال لتغطية تكاليف الإقامة خاصة، لقد أمدني الأصدقاء عند المغادرة ب 100 زلف فرانك (قديم، أي ألف فرنك جديد)، صرفت معظمها في التذكرة من الجزائر إلى القاهرة، ولم يبق في جيبي سوى ألف فرنك (10 فرنكات جديدة، علما أنني ببرن (سويسرا) منذ الأربعاء (27 أكتوبر). فكروا في هذا الأمر قليلا من فضلكم. الطبيب (1) الاسم الحركي لمحمد يزيد (2) إشارة إلى المصاليين و المركزيين أي الطرفان المتسببان في أزمة حزب الشعب وانقسامه.