فقدت سهرات رمضان بعنابة نكهتها وطابعها العائلي، خاصة خلال السنوات الأخيرة، أين كانت تمتد سهرات الليل إلى طلوع الفجر، وتقضي العائلات جل وقتها مع الجيران والأصدقاء يتبادلون أطراف الحديث، يتحدثون عن القوارب الراسية في الميناء ويتذكرون أحبابهم الذين هجروا الوطن تاركين فراغا رهيبا وراءهم. سكان عنابة فقدوا طعم هذه السهرات الرمضانية في ظل المشاغل اليومية التي أصبحت ترمي بظلالها على كل مشهد، وأصبحت الجدات تحن إلى الزمن الجميل حينما كان الجار يطرق باب جاره دقائق قبل موعد الإفطار ليتبادل معه أطباقا ساخنة، وحتى الخبز التقليدي الذي كان يحضر كهدية للجيران في شهر الرحمة. وكانت “اللمة” في رمضان، حسب خالتي خدوجة التي التقينا بها عند المدخل الرئيسي للمدينة القديمة بلاص دارم، تجمع الأحباب والأقارب وغيرها من “القعدات الملاح” التي لا وجود لها بعدما أصبح الناس يعتكفون في بيوتهم لمتابعة ما تبثه القنوات الفضائية خلال شهر رمضان. وقد عوضت مثل هذه القنوات “لمة” الأحباب وجعلت شريحة كبيرة من الناس يفضلون قضاء سهراتهم الليلية أمامه، فيما يفضل الشبان قضاء ساعات طويلة أمام شبكة التواصل الاجتماعي “فايس بوك”، أما البعض الآخر فيتوجه بعد الإفطار إلى المنتزهات ومحلات المثلجات وحتى إلى الشواطئ، بعدما اندثرت السهرات الجماعية التي كان يتبادل فيها الجيران أطراف الحديث و”الأحجيات”، ويتفقدون من خلالها أحوالهم بين النكت والقصص الشعبية بما يعرف بالمحاجية التي كانت تزيد للسهرة جمالا ومتعة تستمر إلى طلوع الفجر، حيث كانت السهرات تتواصل إلى غاية اليوم الموالي. خلال جولتنا القصيرة عبر الأحياء الشعبية بعنابة في إحدى السهرات الرمضانية، انطلاقا من المدينة القديمة “بلاص دارم”، قال لنا الشيخ علي وهو صاحب دكان خاص ببيع المواد الغذائية “لقد انتهى كل شيء”، مبديا أسفه إزاء أيام رمضان زمان التي لم تبق إلا في الخيال، بعدما أصبح مفهوم الانفرادية والعزلة يطبع أيام العائلات العنابية، حيث أصبحت تغلق أبوابها ساعة قبل موعد الإفطار، وتبتعد عن الجلسات الجماعية في ظل المشاكل اليومية التي يتخبط فيها الكثيرون، والتي جعلت الشخص يميل أكثر للوحدة. ويضيف:”وهذا أمر لم يكن له وجود في الزمن الجميل الذي كنا ننتظر من خلاله شهر الرحمة، والذي يعتبر ضيفا عزيزا علينا بفارغ الصبر لا لشيء إلا لقضاء أيام جميلة مع الأصدقاء والجيران، أين تتنوع الجلسة بين فناجين القهوة والشاي والنكت التي تميز تلك الجلسات على الكورنيش أوفي ساحة الثورة، حيث كان يجتمع كبير العائلة رفقة أبنائه وكل أقاربه لتبادل أطراف الحديث”. وحسب هذا الشيخ فإن كل هذه “اللمات” قد زالت بعد أن خدرت الفضائيات عقول الشباب. غيرنا الوجهة إلى الحي الشعبي الغزالة “لاكولون”، حيث استقبلتنا السيدة خديجة، أم لثلاثة أطفال، في حوش بيتها، ووضعت لنا صينية عليها الشاي المعبق بالنعناع، مرفوقة بالكعك وهي حلوى تقليدية عنابية. وخلال حديثنا قالت “أحن لأيام زمان، كنا ننتظر الشهر الفضيل بفارغ الصبر، وبحكم تغيير الظروف الاجتماعية وغياب الثقة والروح الأخوية اندثرت القعدات الزينة، لأن أغلب جيرانها يفضلون قضاء سهراتها بشكل انفرادي بعيدا عن الأصدقاء والأحباب وذلك لكسب الراحة، خاصة بعد أن طغت بعض الصفات الذميمة، منها الحسد والكره على قلوب معظم الناس”. وحسب محدثتنا فإنها تكره جلسات النسوة التي فيها النميمة والشجار، و”أفضل كثيرا البقاء مع عائلتي نتابع خلال سهرات رمضان المسلسلات والأفلام، أما أبنائي يفضلون قضاء جل وقتهم أمام الفايس بوك.