في ”نجمة تائهة” نجمتان: الأولى استعارية، هي إستير اليهودية الأصل، تقول عنها إليزابيث (أمها): ”لا تذهبي يا قلبي يا نجمتي ابقي مع، وإلا مت”. 114 و”تحاول أن تتكلم، تقول: نجمة، النجمة الصغيرة” 155. وهي نفسها ”النجمة الزرقاء التي ترفرف في السماء” 195. إنها نجمة العودة إلى”أرض الميعاد”. تحيا في الحاضر من أجل المستقبل. ومعها يبدأ كل شيء من البداية 278. ونجمة ثانية، اسم لامرأة لا انتماء لها ولا أصل أو وطن، بلا سماء: هي نجمة المشردة اللاجئة، تعني الضياع النهائي بلا عودة، 222. تعيش في الحاضر للماضي، 217. لأن كل شيء كان انتهى بالنسبة إليها. فما في النص كله يدل على أن نجمة المشردة لن تكون أختا لإستير برغم تصريح هذه الأخيرة: ”أفكر الآن فيها نجمة، أختي...” 287. ”نجمة تائهة” تقول ”عودة” النبي موسى الجديدة إلى ”أرض الميعاد” عبر رحلة بين 1943 و 1982. خلال قراءتي، إذًا، للرواية، الفائزة بجائزة نوبل للآداب 2008، كنت أحس ألما داخليا موجعا.وتصورت أن درجته كانت مضاعفة على السعيد بوطاجين نفسه فهو الذي قرأ النص في لغته الفرنسية الأصلية فتكون أصابته في الروح صعقة التلقي. ذلك جراء حمولة خطاب الرواية الممركز حول ”انبعاث إسرائيل” من حلم شخصيتي إستير وجاك برجيي اليهودي الأصل، المهاجرين من فرنسا إلى ”أرض الميعاد”، في نهاية الحرب العالمية الثانية وبعدها عبر مسار مؤطر بكل ما يكرس في ذهن القارئ أن ”إسرائيل” كانت هناك دائما في أرض تنتظر العائدين إليها. أرض لا يسميها المؤلف فلسطين، أبدا، برغم أنه يذكر كثيرا من مدنها وقراها وبحرها وأشجارها، وأسماء أهلها فلا يسميهم فلسطينيين، أبدا!. كما كنت أتخيل السعيد بوطاجين ينجز عملية النقل إلى العربية، في حوار ناطق من جانب واحد. فالمؤلف، أمام ضميره ككاتب، كان لا يجد أجوبة لكل الأسئلة التي يثيرها تغييب فلسطين والإنسان الفلسطيني في رواية تُغفل تراجيديا هذا الإنسان وأرضه وتمحو ذكره من التاريخ؛ باعتبار الرواية شهادة تاريخية. فقد أربك بناء الرواية أنها تغدو منتصرة للمحتل، مصورة إياه هو المستعيد لأرض، لم تكن يوما أرضه، لتنتهي إلى اختلال مؤسف على مستوى قيمة العدل ذاتها، التي يخيب الانتظار فيها. بل إن الرواية تصير حكما قضائيا تاريخيا لصالح الجاني ضد المجني عليه. قبل ذلك، يبدو المؤلف تحت وقع تردد قاس في حسم خياره السردي، بأي ضمير، بأي صوت يحكي؟ مع أنه أوجد السند: موضوع بمواصفات منتظرة للفوز بالجائزة، مؤسس على ”رسالة حسن النية”، مكررة مرة أخرى، نحو اللوبي الصهيوني لتكريس ”أحقية” اغتصاب أرض فلسطين. إن كان تم تأثيث السند بكراسة نجمة المشردة فإن المؤلف (الراوي) تجنب أن يتورّط في أي فضاء تدخل إليه نجمة المشردة اللاجئة. لم يمهد لها، على لسانه، لتدخل بصوتها في السرد، كما فعل مع إستير، نجمة الأخرى. ففي فصل نجمة المشردة، بدءا من 205، ينزل مستوى السرد إلى أدنى حد من التبسيطية. هل لأن نجمة هذه هي التي تتحدث؟ هل لأنه سرد قليل الأهمية قياسا إلى أهمية سرد إستير؟ وإن جعل المؤلف نجمة المشردة تسرد قصتها بصوتها فضمن إطار محدد، يمنع منعا ذكر فلسطين، المقاومة، العودة والعدو. وإن هو جعلها تقف على الموت وتصف فظاعته فليس على إنسان فلسطيني، بل على كلبة 214 و216!. وإن جعلها تتذكر فلكيلا تذكر سوى ماض لا صلة له بأسباب تشريدها من بيتهم وتهجيرها من وطنها. وإن جعلها تسمع حكايات (عمة حورية) فعن الضياع كقدر محتوم، وليس عن أرض فلسطين المسلوبة كما مع إستير على لسان الراوي: ”منذ بدأت تفهم الكلمات السحرية التي حفظتها دون أن تفهما، مدينة النور، الجداول، الساحة التي تلتقي فيها كل طرق العالم، أرض إسرائيل، أرض إسرائيل” 68. ولا عن الاحتلال والاغتصاب ولكن عن الخرافات وأحيانا عن ”ملك إسرائلي” يسخر الجن، 220 ..إلخ. وإن جعلها هي المشردة تخلف مذكراتها (الكراسة)، فإنما لتسلمها إلى الأممالمتحدة على أمل أن تسلمها بدورها إلى إستير لتقرأ بكاءها فتعطف عليها. فهذا موقف من الكاتب بقدر ما يثير التعجب فإنه يثير الشفقة. كما قدم المؤلف نجمة المشردة مجردة من هويتها، لا ذاكرة لها ترتبط بالأرض ولا بالثقافة العربية ولا بالديانة الإسلامية أو المسيحية لا شعب لها ولا أرض، ولا عدو لها ولا حرب تخوضها، كل ما هنالك فإن ”المقاتلين العرب يلقون بالأطر المطاطية في الأقبية والمحلات” 240. ثم إن ”سعدي لا يريد الذهاب إلى الحرب، لا يريد أن يكون عائدا” 242. نجمة المشردة لا ذرية لها لم تنجب مع سعدي، الذي عاشرته بلا زواج شرعي. كل ذلك، على نقيض (نجمة الأخرى) إستير، التي يجعلها المؤلف تحمل ذلك ”الحلم” في شموليته: أرض موعودة. لغة عبرية ”كلمات الكتاب المقدس بلغة غريبة ورائعة، لغة تنفذ إلى الأعماق” 88. ”وهي تستمع مجددا إلى الكلمات المبهمة لهذه اللغة الدافئة” 106. ”اسمعي، هذه الآن لغتنا” 159. ”تأخذني اللغة معها كلمات الحاخام جويل..” 160. ”كلمات الكتاب جميلة مثل البحر، تدفع السفينة إلى الأمام نحو الخط الغائم لأرض إسرائيل” 185. وديانة يهودية ومرجعية روحية (الحاخام)، إستير ترفض أن تسمى هيلين (الهيلينية؟): ”اسمي ليس هيلين، اسمي إستير، اسمي يهودي” 63. ولها شعب: ”جاء الحاخام جويل معنا، تحدث عن أورشليم، عن تاريخ شعبنا. أحب كثيرا عندما يتحدث عن الدين” 167. ولها أرض: ”بدأت أصوت الرجال والنساء تردد الكلمة نفسها: ”أرض إسرائيل! أرض إسرئيل” 184. وتعرف الحرب ”تحدث جاك عن الأخطار... بسبب الحرب، قال إنه سيحارب أعداء إسرائيل، سيحارب العرب والإنجليز” 189. يقول جاك مطوقا إستير: ”يجب أن تكون آخر حرب... ستتحقق آنذاك كلمات الكتاب ونبقى في الأرض التي منحها الله لنا” 190. ”إسرائيل هي المكان الذي ولد فيه الشعب اليهودي..” 194. ”العدو يلفت نظره نحو أورشليم المقر الدائم لشعبنا الخالد، ستكون معركة وحشية، ضارية..” 197. وسيكون لإستير من جاك ابن ”سيولد مع شروق الشمس.. ستكون له قوته وقوة أرضي.” 294. فالرواية تقول: بإرادة إله إسرائيل واليهودي اللاجئ إلى ”أرض الميعاد” تكون دولة إسرائيل. فعلى مدى 201 صفحة ينجز المؤلف تحضيرا لذلك، مطعما بقصة حب بين إستير وبين جاك برجيي؛ تسويغا لفكرة العودة إلى ”الأرض الموعودة” وقبول إنشاء دولة لليهود، كما يريدها الكتاب المقدس ”سفر التكوين”، كما يراها الحاخام جويل، 171 175. ولأن الحوار بين المترجم وبين المؤلف كان من جانب المترجم وحده، كما أتصور، فإنه كان لا بد أن ينتقل إلى القارئ. إني، بهذه الصفة، القارئ. فكلاهما (المؤلف والمترجم) انسحب، بقي نص ”نجمة تائهة” شهادة للقارئ العربي، والفلسطيني خاصة، على ما كان لا مفر من كشفه: تغييب فلسطين الممنهج من خارطة السرد، فلم تذكر ولا مرة واحدة (فيما ذكرت، بدلها، إسرائيل وأرض إسرائيل حوالي 20 مرة. وأورشليم أكثر من 30 مرة) وتغييب الفلسطينيين (لم يذكروا، مسلمين أو مسيحيين، مرة واحدة، فيما ذكر اليهود والحاخام أكثر من 20 مرة) أو نسب إليها اسم شخصية ما من شخوص الرواية، حتى نجمة حتى سعدي اللاجئان! فعمة حورية نفسها، إذ تحكي لنجمة خرافاتها 219 إلخ، لا تقص عليها أبدا كيف شردهم اليهود وقتلوهم وأخذوا أرضهم وبيوتهم. فإنه لا السارد، ولا الراوي، يذكر أن من شرد الفلسطينين هم اليهود أنفسهم. فهل هي صدفة أن المؤلف اختار لنجمة المشردة فضاء خارج فلسطين مخيم عين الشمس لتكتب حكايتها؟. وهل هو مجرد سياق، عندما يتعلق الأمر بموت يهودي، أن يسقط الوصف على إنسان، 283. وحين يتعلق بغيره (الفلسطيني) يسقط على الكلاب 214؟. فاليهودي (حاك بيرجيي) يموت في الجبهة من أجل ”إسرائيل” 283. فيما لا يوجد أصلا فلسطيني يقاوم أو يستشهد. في ”نجمة تائهة” فعل واع منتظم، مع سبق إصرار على مسح اسم فلسطين والفلسطينيين كدلالتين ليس فحسب على المأساة: الأرض المسلوبة، الشعب المشرد والمستعمر، ولكن أيضا على حجب جميع أفعال اليهود المهاجرين، ثم إسرائيل، التي لا تقل بربرية في التقتيل والتشريد والاغتصاب عما مارسه النازيون في حق اليهود أنفسهم. في ”نجمة تائهة” ارتباك على مستوى ما من كتابتها، لا شيء يدهش فيها، تبدو مبعثرة التركيب، لا يشدها غير مسار إستير وأمها إليزابيث. فيها صمت مذنب على الظلم، انحياز لطرف على حساب آخر، مغالطة أخلاقية وتاريخية، وفيها خيانة لنبل الأدب المنتصر للعدالة. إنها وضعية مواجهة مباشرة مع الرواية الخائنة للأمانة الإنسانية! تلك كانت حالي كقارئ. فإني نسيت تماما من هو المترجم؛ لأن السعيد بوطاجين كان على مستوى عال من الأناقة والكفاءة ومن النزاهة. نجمة تائهة، ج. م. غ لوكلوزيو، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ترجمة السعيد بوطاجين، 2011. [email protected]