أتحفنا الدكتور محمد دراج بالسهر على إعادة نشر مذكرات خير الدين بربروس (*) مترجمة عن التركية - التي تذكرنا بحقبة مضطربة ومجيدة من تاريخ الجزائر التي كانت الضحية الثانية للمد الإسباني الصليبي، في أعقاب سقوط غرناطة مطلع 1492. ألف هذه المذكرات سيدي علي مرادي (1) نقلا عن خير الدين مباشرة، بأمر من السلطان سليمان القانوني (1520 1566) الذي حدد بنفسه في هذا الأمر طلبه كما يلي: كيف خرجت أنت وأخوك عروج (أوروتش بالتركية) من جزيرة ميديلي وفتحتم الجزائر؟ ما هي الغزوات التي قمتم بها في البر والبحر حتى الآن؟ دون هذه الحوادث جميعا بدون زيادة ولا نقصان في كتاب وعندما تنتهي أرسل إلي نسخة لإحتفظ بها في خزانتي!! نفذ خير الدين هذا الطلب وتم وضع الكتاب سنة 1546 سنة وفاته في 4 يوليو. سبق نشر هذه المذكرات بالجزائر سنة 1934 بعنوان ”غزوات” ويفهم من الأستاذ المنور مروس أن هذا العنوان احتوى شهادات أخرى، فضلا عن شهادة خير الدين (2). ولهذا الإحياء لمذكرات خير الدين بربروسة جانب آخر لايخلو من أهمية: إثارة الاهتمام بالمحفوظات التركية التي تشكل كنزا ثمينا من المعلومات، حول نحو أربعة قرون من عمر الجزائر في العهدين الوسيط والحديث. ويؤكد هذه الأهمية الجوهرية ما درس ونشر إلى حد الأن من الوثائق المحفوظة، في مختلف المطبوعات العربية والدولية، كما يشيد بذلك الأستاذ مروش. بجاية.. صدفة وإغاثة! استقر والد الأخوة بربروس بجزيرة ميديلي (3) التي استولى عليها العثمانيون في أعقاب فتح القسطنطينية سنة 1453.. وكان ذلك بأمر من السلطان محمد الثاني الفاتح الذي شجّع الأتراك على الإستيطان بها، وينتمي الوالد إلى سلاح الخيالة (السباهية) بالجيش العثماني أسوة بجدهم. وقد تزوج من إحدى أهالي الجزيرة، وأنجب أربعة ذكور هم على التوالي: إسحاق، عروج، خير الدين وإلياس. اختار عروج لما اشتد ساعده التجارة البحرية، فكان بذلك قدوة لشقيقه خير الدين. ويفهم من شهادة هذا الأخير، أن عروج كان على علاقة طيبة بحاكم ولاية أنطاليا الأمير قرقود، فلما تبوأ شقيقه سليم (الأول) سدة العرش العثماني سنة 1512 خاف الأمير على نفسه، لسوء علاقتهما سابقا.. ففضل الفرار نجاة بنفسه.. كان عروج آنذاك في الإسكندرية فنصحه شقيقه البكر إسحاق بقضاء فصل الشتاء هناك، ريمثا تتضح نوايا السلطان الجديد وفي الربيع الموالي خرج للغزو بإذن من سلطان مصر، لكنه فضّل التوجه إلى جزيرة جربة لبيع غنائمه، من سواحلها ومن سواحل قبرص كذلك.. وهناك التحق به خير الدين، هروبا من مظالم الوالي اسكندر باشا، ومضايقاته للتجارة البحرية حسب قوله. وذات يوم دخل الأخوان على السلطان الحفصي في تونس بعرض مغر بعد التقديم التقليدي للهدايا يتمثل في طلب مكان لحماية سفنهم، والإنطلاق منه للجهاد في سبيل الله، مع التعهد ببيع الغنائم في أسواق تونس، وتقديم ثمن ذلك إلى خزينة الدولة.. وجد سلطان تونس أن العرض معقول جدا، فاستجاب فورا لطلبهما، ورخص لما بقضاء الشتاء في ميناء حلق الوادي، وبعد فترة من الغزو الموفق بسوالح الحوض الغربي للمتوسط ذاع صيتهما ”في ديار الكفر.. فاتفقوا للقضاء علينا” حسب قول خير الدين. وكانت الصدفة في البداية وراء قدومهما إلى ساحل بجاية التي كانت خاضعة للاحتلال الإسباني منذ 1510 فقد خرجا من تونس باتجاه جنوة (إيطاليا)، لكن الرياح القوية المعاكسة اضطرتهما إلى الاتجاه نحو السواحل الشرقيةالجزائرية.. ليجد نفسهيما قبالة بجاية وقلعتها الشهيرة هذه الوجهة الإضطرارية تحولت إلى معركة ضارية، حقق خلالها عروج ورفاقه نصرا مبينا، لكن قذيفة مدفعية مصوبة من القلعة أصابت القائد في ذراعه اليسرى ما أدى إلى بترها في تونس بأمر من الأطباء.. وفي ربيع السنة التالية كانت سواحل الأندلس وجهة تشكيلية من عشر سفن بقيادة عروج دائما. كان الإسبان يومئذ يواصلون اضطهاد المسلمين بعد سقوط غرناطة مطلع 1492، ويصف خير الدين حالهم بقوله: ”كان الكثير منهم يعبدون الله سرا، في مساجد خفية.. تحت الأرض..”، لذا ساهم هذا الأسطول الصغير، في إنقاذ عدد كبير منهم ونقلهم إلى الجزائروتونس.. وكان السلطان بايزيد الثاني قد لبى استغاثلة اللاجئين من الأندلس غداة سقوط غرناطة، فأرسل القائد كمال رايس على رأس وحدة من الأسطول العثماني لنجدتهم.. وقد تمكن من إنقاذ العديد منهم، وتوطين بعضهم في الأناضول.. وغد عودة عروج وتشكيلته إلى تونس، وجدوا في انتظارهم وفد من مدينة بجاية، يحمل رسالة استغاثة مما جاء فيها: ”... لقد صرنا لا نسطتيع أداء الصلاة، أوتعليم أبنائنا القرآن الكريم، لما نلقاه من ظلم الإسبان.. فتفضلوا بتشريف بلدنا، وعجلوا بتخليصها من هؤلاء الكفار”. وقبل التحرك إلى بجاية، عاد محي الدين بيري مبعوث الإخوين بربروس إلى السلطان سليم الأول بمفاجأة سارة: تعيينهما رسميا لخذمة الخلافة العثمانية، وتوصية سلطان تونس بهما خيرا.. تحرك عروج بمعنويات مرتفعة إلى عاصمة الحماديين، على رأس أسطول من 12 قطعة، تتقدمهما سفينتان هدية من السلطان العثماني للأخوين، جهزت كلتهما ب 16 مدفعا. كانت بقلعة بجاية حامية إسبانية، تمكن عروج وفاقه من القضاء على أكثر رجالها.. لكن بقية منهم تحصنت بالقلعة، واستمرت في المقاومة 29 يوما.. ويفسر خير الدين ذلك بعدم امتلاك الأسطول المهاجم مدافع قوية، لفتح ثغرة كافية بتحصينات القلعة، تلقت بقية الحامية مداد من مينورقة (البليار)، يتمثل في 10 سفن حربية، فانسحب عروج ورفاقه تاكتيكيا نحو جيجل، ليغيروا على هذا المدد الذي سقط بين أيديهم لقمة سائغة.. وقد استعملوا السفن الغنيمة لتضليل المعتصمين بالقلعة: نشر الرايات الصليبية عليها وهي تنقل 500 من بحارة عروج، ما جعل المعتصمون يسارعون بفتح أبواب القلعة، ظنا بأن هذه السفن المموهة هي النجدة التي ينتظرون! هكذا سقطت قلعة بجاية الحصينة، ليتدفق عقب ذلك على المدينة شيوح وقواد المناطق المجاورة مهنئين مبايعين.. كان ذلك سنة 1515.
تخوف عروج من ”بؤرة الفتن”! بعد تحرير بجاية أقام الإخوان بربروس بجيجل بعض الوقت، فهبت عليهما هناك وفود عديدة من المدن الجزائرية، كان أهمها وفد مدينة الجزائر التي تمثل مركز البلاد، من شخصيات هذا الوفد: سالم التومي من أعيان قبيلة الثعالبة بالمنطقة. الشيخ أبو العباس أحمد بن القاضي من شيوخ وعلماء زواوة. كان أهالي الجزائر يشكون ظلم الإسبان، ويرجون تدخل الأخوين بربروسة لإنقاذهم.. هذا النداء استجاب له عروج الذي تحرك إلى الجزائر على رأس وحدة من 500 بحار، لم يرافقه خير الدين هذه المرة، لأنه كلف بمهمة لدى سلطان تونس الذي غير نظرته إلى الإخوين، منذ تحولهما رسميا إلى خدمة السلطان العثماني سليم الأول كما سبقت الإشارة. تمكن عروج من استعادة مدينة الجزائر من أيدي الإسبان الذين احتلوها قبل ستة سنوات، وإن بقي نفر منهم معتصمين بحصن الصخرة الشهيرة. كان إلى جانبه في هذه الحملة عدد كبير من المجاهدين، من عرب وبربر وأندلسيين.. كان ذلك في ربيع 1516، وفي أواخر سبتمبر من نفس السنة، جهز الإسبان في أول رد فعل لهم حملة من 40 سفينة حربية، بهدف استرجاع ميناء المدينة خاصة. يقدر خير الدين في شهاداته هذه القوة ب 10 آلاف جندي، فضلا عن بحارة السفن الأربعين (4). واجه عروج هذا الموقف العصيب بحنكة حربية مشهودة على مرحلتين: قام على رأس 3 آلاف مجاهد بعملية التفاف تحت جنح الظلام، ليفاجئ مخيم العدو بهجوم مباغث من الخلف أربكه إلى حد كبير.. وتزامن الهجوم مع هبوب عاصفة شديدة، مصحوبة بوابل من البرد في حجم بيض الإوز... وكان تضافر المفاجأة والعاصفة من القوة بحيث أصبح جنود العدو يقتل بعضهم بعضا، حول قول خير الدين. وكانت الضربة القاضية في آخر الليل، بنزول 2000 مجاهد من قلعة الجزائر إلى ميدان المعركة، للإجهاز على ما بقي من القوات الإسبانية. كان السلطان سليم الأول قد فتح مصر في نفس السنة، فحرص على تعزيز موقع عروج بالجزائر، فقد أمده بعدد كبير من الجنود والعتاد الحربي، بواسطة مصلح الدين رئيس. في تلك الأثناء عاد خير الدين من تونس رفقة أخيه الأكبر إسحاق، ليستقر بعض الوقت بجيجل التي اتخذها منطلقا لغزواته الغانمة وهناك تلقى رسالة من عروج يخبره فيها ”بالقضاء على أحد الشيوخ المنافقين وتعيين شيخ آخر بدله”، وفي ذلك إشارة إلى مشكلته مع شيخ الثعالبة سالم التومي الذي اكتشف أنه يتآمر عليه مع الإسبان وما لبث خير الدين أن التحق بالجزائر على رأس 20 سفينة.. وبها اجتمع الأخوة الثلاثة بعد مجيء إسحاق ليقضوا معا عطلة شتاء 1516 1517. بعد فترة قرر عروج تحرير مدينة تنس التي كان على رأسها أمير عربي ضعيف، يسر للإسبان مهمة الإستيلاء عليها سنة 1508، كلف بهذه المهمنة شقيقه خير الدين الذي كان عليه أن يواجه 10 قطع تجربة، بعث بها الإمبراطور شارلكان تحت غطاء حماية الأمير العميل.. فضّل الإسبان والأمير العافية في النهاية، فهربوا ليلا.. فلما وصل خير الدين وجد أبواب قلعة المدينة مفتوحة أمام، ليتخرج منها مئات من المسلمين مرحبين مبشرين ”لقد خرج الإسبان مع الأمير ورجاله، ولم يبق غير الذين لا يرضون بغيركم وأخيكم عروج سلطانا”. تعقب خير الدين الفارين رغم ذلك، وتمكن من الفتك بالعديد منهم وأسر نحو 350 آخر، ثم ترك أحد ضباطه نائبا على المدينة وعاد إلى الجزائر.. لكن مشكلة تنس لم تنته بذلك، فاضطر عروج إلى الزحف عليها شخصيا للقضاء على الأمير العملي ومن والاه من الشيوخ العرب. بعد حل مشكلة تنس، واجه عروج مشكلة أخرى أكثر حدة وأشد تعقيدا هي مشكلة تلمسان، ويذكر خير الدين في هذا الصدد ”أن أخاه عروج كان يدرك أن هذه المدينة هي مصدر جميع الفتن.. كان سلطان تلمسان يومئذ ملكا بائسا خاضعا لكفار إسبانيا.. وكان الأهالي يعانون من ظلم الإسبان وسلطانهم معا.. ومنذ فترة طويلة جاء التلمسانيون إلى الجزائر، متوسلين إلى أخي عروج أن ينتصر لهم من ظلامهم”.. ثار أهالي تلمسان على السلطان فهرب، وأرسلوا وفدا إلى الجزائر لمبايعة عروج، هذه المبايعة أزعجت حاكم وهران الإسباني وكانت بالمدينة قلعة منيعة يحميها آلاف الجنود. كانت تلمسان عمليا تحت نفوذ هذا الحاكم، فسارع عروج بعد مبايعته بتوجيه أمر بقطع جميع العلاقات مع وهران، كما قرّر قضاء الشتاء بالمدينة، ولم يحتفظ معه بأكثر من ألف جندي، وما كان ينوي مهاجمة وهران مع حلول فصل الربيع. غير أن السلطان الهارب أخذ يستجمع قواته وطلب المدد من حاكم وهران الذي أمده ب 10 آلاف جندي، يقودهم قائد حامية المدينة شخصيا. بلغ ذلك خير الدين بالجزائر، فسارع بمد عروج ب 3 آلاف جندي، بقيادة الأخ الأكبر إسحاق ومعه إسكندر رئيس مساعدا.. وأثناء الطريق استشهد إسحاق، في معركة بضواحي قلعة بني راشد.. علم عروج بمجيء المدد، فترك قلعة المدينة بهدف توحيد القوانين.. وقد استغل السلطان الخلوع الفرصة لاحتلال تلمسان.. خاض عروج معركة أولى على أبواب المدينة، حقق فيها نصرا هاما، وتمكن من دخولها والإعتصام بقلعتها.. أدرك الإسبان أن عروج في موقف ضعف، وأن هذه فرصتهم الأخيرة للقضاء عليها، ناهيك أن الإمبراطور شارلكان وجه أمرا إلى حاكم وهران أن يأتيه بعروج حيا.. لجأ السلطان وحلفاؤه الإسبان إلى حيلة التفاوض، الأمر الذي مكّنهم من استدراج عروج إلى ترك القلعة، لتسهل عليهم مهاجمته في العراء، وأجباره على خوض معركة غير متكافئة.. كان له شرف الاستشهاد فيها، وكان ذلك في شتاء 1518. طبعا لم يظفر شارلكان بعروج حيا، لكن حرص حاكم وهران على إرضائه بإرسال رأسه! ...... (يتبع) (*) صدرت عن شركة الأصالة للنشر والتوزيع الجزائر 2010. (1) هو سنان شاوش حسب الأستاذ المنور مروش، طالع الجزء الثاني من كتابه القرصنة.. الأساطير والواقع، دار القصية للنشر، الجزائر2009. (2) نفس المصدر. (3) ليسبوس اليونانية الآن، من جزر بحر أيحة. (4) 3000 جندي حسب المصادر الإسبانية (المنورووش مصدر سابق)