المكي شباح ظاهرة نضالية على الصعيدين السياسي والثقافي، فقد كان مناضلا ميدانيا في الحالتين: على خشبة المسرح وعبر مواجهة جبروت الحكام الفرنسيين - من مدنيين وعسكريين وعملائهم من الإقطاع المحلي. نواصل حديثنا عن مذكرات (*) هذا المناضل الفذ في الحلقة الثالثة والأخيرة ، بالتطرق إلى ”الرفاق الثوار” الذين كان شباح في طليعتهم ناحية الأوراس وبسكرة.. وكذلك إلى بداية الاستقلال، حيث كان شاهدا على ”تناسخ نظام الإحتلال” وما صاحب ذلك من فساد مبكر على الصعيدين الحزبي والإداري.. هذا الفساد الذي كان هذا المناضل الكبير في طليعة ضحاياه!. ثائر.. في عرين الفساد! أدركت ثورة التحرير المناضل العنيد المكي شباح وهو في ال 60 من العمر، وكان نظرا لسوء علاقته بالإدارة المحلية وأعوانها معرضا للإعتقال، بل التصفية في كل لحظة. لذا فضّل الإنسحاب إلى العاصمة، ومنها دبّر رفاقه في الحزب الشيوعي أمر تهريبه إلى فرنسا، حيث استقر بالمنطقة الشمالية الشرقية منها، وهناك أسس من جديد جمعية ثقافية، تنشط في ميدان المسرح، مجاله المفضل، رغم هذا الإنسحاب وعامل السن، سعت إدارة الإحتلال إلى استصدار حكم غيابي عليه بالإعدام في 25 يونيو 1955، بتهمة المشاركة في إشعال فتيل الثورة بالأوراس، وتمكن حاكم آريس ”روبي” الذي خلف ”فابي” من الحصول على عنوانه المسجل في طلب اعتماد جمعيته الثقافية.. وبناء عليه تم اعتقاله وقال له محافظ الشرطة بالمناسبة ”أنت فلاڤ في زي رجل مسرح”! ولحسن حظه، أن كتابة اسمه ولقبه نقلت خطأ.. ومع ذلك بقي رهن المراقبة فترة، إلى أن اتصلت شرطة البلدة بمسقط رأسه في سيدي عقبة للتأكد من الكتابة السليمة. عرضت عناصر جبهة التحرير بالناحية، على المناضل شبّاح تولي مسؤوليات مباشرة، فاعتذر بعامل السن.. لكن شارك مع ذلك من موقعه، في شبكة إرسال المتطوعين الراغبين في الإلتحاق بالثورة: كان يشارك في نقلهم من شمال شرق فرنسا، ويستقبلهم ابنه عبد الحميد بألمانيا، ومن هناك يتم تسفيرهم إلى طرابلس، وقد استمر ينشط ضمن هذه الشبكة حتى الاستقلال.. وفي أوت 1962 عاد إلى الجزائر، وسارع بإنشاء جمعية مسرحية في العاصمة، وبدأت تنشط فعلا بالتعاقد مع شركة أفلام جزائرية على تصوير فيلم حول الثورة.. هذا المشروع الثقافي أفسده وزير الفلاحة آنذاك عمار أوزڤان رفيقه السابق في الحزب الشيوعي الذي طلبه لمساعدت ناحيتة الأوراس وبسكرة ومن موقعه هذا، اصطدم مبكرا بظاهرة تناسخ نظام الإحتلال، سواء من ناحية الأشخاص أو الممارسات: مثلا، كان مسؤول الحزب بباتنة عاملا سابقا بالدائرة قبل الاستقلال.. وكان قبل ذلك من أعوات حاكم أريس ”فابي” الذي عينه رئيسا على أولاد عبدي أخوال المكي شباح. وحكم عليه أثناء الثورة بالإعدام لاختلاس أموال، ونجا من الموت بفضل شفاعة المجاهد عبد الرحمن بركات. وبعد فترة وجيزة من الاستقلال عاشت باتنة على وقع فضيحة مالية: تورط بعض المسؤولين بالإدارة الحزب في سرقة 60 مليونا (سنتيم)!. في بسكرة، عين شباح مديرا لتعاونية بيع التمور، ومالبث أن اكتشف، أن المدير السابق كان يتعامل مع كبار التجار، على أساس اتفاقات خاصة: شراء التمور بسعر وتسجيلها سعر آخر! عاد شباح إلى باتنة مديرا لفندق تيمڤاد، ليصطدم من جديد بالفساد المستفحل الموروث! ويصف حاله يومئذ بقوله: ”وجدتني في نفس الوضعية التي تركتها في بسكرة: عاجزا عن تقويم أي اعوجاج! حتى البحث فيما حولي من مهازل واختلاسات”!. هذا الفساد المستفحل مبكرا، جعله يفكر في الهجرة من جديد وهو في 69 من العمر! لكن عدل عن هذه الفكرة في النهاية، مفضلا العودة إلى الأصل: فلاحة أملاكه في المزيرعة بالقربة من زريبة الوادي.. حول أن يكون قدوة لأبناء عرشه أولاد عبد الرحمن فقام بأحياء أرضه، وتجنيدهم للاقتداء به، وقد وجد لديهم التجاوب المنتظر، فهبوا لإعادة بناء الديار وحفر الآبار، وتقدموا بطلب إلى الحكومة، فساعدتهم في بناء مدرسة ومركز ثقافي.. استقر المكي شباح بين ذويه في أملاكه نحو ثلاث سنوات.. حيث بدأ بينهم بطيب العيش وثمار الجهد الخالص.. لكن هذا الاستقرار الهاني لم يدم طويلا.. فقد تعرض إلى هزتين عنيفتين طبيعية وبشرية: الهزة الطبيعية كانت بسبب فيضانات خظيرة ضربت المنطقة سنة 1966، وأدت إلى اتلاف الزرع وهلاك النخيل، وأكثر من ذلك إلى تصدع البئر الرئيسية المعول عليها في عملية السقي. كانت الخسائر باهضة وطاحنة، ولم يتلق المتضررون بالناحية أي تعويض أو مساعدة، رغم الطلبات الملحة المدعومة بعناد الشيخ شباح المعروف!. الهزة البشرية كانت نتيجة تعرضه إلى مقلب حقيقي: ترشيحه مطلع 1967 للإنتخابات البلدية الأولى في عهد بومدين لإثبات فشله! لقد رغب العرش في ترشيحه فرفض ذلك، وتظاهرت السلطات المحلية بأريس بالتجاوب مع هذه الرغبة، فألحت عليه كي يقبل ترشيحه.. لكن قبل موعد الإنتخابات بيومين سربت إشاعات للفلاحين، تفيد بأن السلطات المحلية ألغت ترشيحه بدعوى أنه شيوعي، وتحذرهم من التصويت عليهم!. ويفسر الضحية هذا الملقب بقوله ”بمثل هذه التصرفات يهدفون إلى الحط من معنويات المناضلين التقدميين، وإرغامهم على الصمت أمام ما يرتكبون من سرقات واختلاسات، ومن اعتداءات على حقوق شعبنا الديموقراطية”. للتذكير، أن المكي شباح سبق أن شارك قبيل الثورة في انتخابات محلية ناحية سيدي عقبة، كانت مرتبطة مسبقا لصالح سليم بن ڤانة، سليل ”شيخ العرب” المتوفي! فما أشبه اليوم بالبارحة!. (*) صدرت بالعاصمة في سبتمبر 1986، على حساب المؤلف (مطبعة الكاتب). (1) طالع الحلقة الأولى والثانية في ”الفجر” عددي 26 ديسمبر 2012 و2 يناير 2013. في طليعة ”الرفاق الثوار” تصفية العمراني و”رافيفي” يكشف لنا المناضل المكي شباح من خلال مذكراته أن رفاقه من أعضاء الحزب الشيوعي الجزائري بمنطقة الأوراس كانوا يشكلون نوعا من الجناح الثوري، في حركة يغلب عليها الطابع الإصلاحي. وليس مستبعدا أن تكون الأساليب النضالية الثورية هي الدافع الأول، لانجذاب هؤلاء الرفاق الفلاحين أكثرهم إلى الحزب الشيوعي وانخراطه في صفوفه. ونلمس ذلك في تجربة الشاهد شخصيا.. فهو يحدثنا عن العمل ”لإنضاج فكرة الثورة (المسلحة) وسط فلاحي المنطقة”.. بل يذهب إلى أبعد من ذلك ”تدريب المناضلين فعلا على النظام والعمل السري، وحتى الرماية..”. ويضيف الشاهد: ”بعد التدريب على الأسلحة، انتقلنا إلى مرحلة التعرف على التضاريس الجغرافية، على ما في الجبال من كهوف ومغارات ومضايق وأماكن حصينة كذلك منابع المياه الدائمة منها والموسمية”. ويحدثنا في نفس السياق، عن التفكير في نوع من ”الإئتلاف الثوري” قبل ثورة الفاتح نوفمبر، وإن كان لا يحدد تاريخ ذلك بالضبط، فقد اقترح شخصيا في هذا الصدد تأسيس ”جبهة ثورية موحدة” بالأواس، كان ذلك خلال اجتماع رباعي حضره: عن الوطنيين الثوريين: مصطفى بن بولعيد. عن حزب البيان: محمد عكشة. عن جمعية العلماء: محمد مرداسي. في هذا الإجتماع، تعاهد الأربعة على نهج الكفاح المسلح لتحرير الجزائر وقد استضافهم للعشاء ممثل جمعية العلماء الذين استغل المناسبة لحملهم على أداء اليمين.. ويقول شباح: إننا طلبنا من مضيفنا تلاوة آيات من الذكر الحكيم، تبركا بنص الله لقضيتنا، قبل أن نفترق ليعمل كل واحد منا في ناحيته”.. غير أن بن بولعيد، ورفاقه انفرودا بتحضير الثورة المسلحة التي اندلعت في نهاية المطاف ليلة فاتح نوفمبر 1954. كان المكي شباح ليلتها عند أصهاره، في دوار تاغيت ناحية بوحمار، وفي حدود الرابعة صباحا جاءه مبعوث من ”جبهة التحرير الوطني”، يخبره بتفجير الثورة في عدة أماكن، ويطلب منه اتخاذ الإحتياطات التي يتطلبها الموقف الطارئ بالناحية وعبر الجزائر كلها. وحسب الشاهد، أن طائرات ودبابات العدو بدأت في الظهور ناحية تاغيت مساء نفس اليوم.. وتلاها في اليوم المولاي إلقاء مناشير، وتطلب من السكان النزوح إلى دوار بوحمار وفي الرابع من نوفمبر بدأ القصف المدفعي بهدف ترويع السكان وترهيبهم.. وقد فزع سكان الناحية لذلك، فخر جوا من ديارهم، وراحوا يهومون في الخلاء بحثا عن مكان آمن.. وبناء على الاستعداد الثوري وسط مناضلي الحزب الشيوعي بالأوراس، فقد بادر عدد منهم بتشكيل أفواج مسلحة تأهبا للإلتحاق بالركب.. من أشهر هذه الأفواج وأقدمها فوج محمد ڤروف من دوار أولاش، وهو طالب قرآن أصبح عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. غير أن هذه الأفواج حافظت على ارتباطها بقيادة حزبها، ما جعلها ترفض الإنضواء بصفة فردية تحت راية ”جبهة التحرير الوطني” تطبيقا لبيان فاتح نوفمبر -، وقد أدى ذلك إلى صدام مبكر بين الطرفين، من أبرز أطواره: تجريد فوج محمد ڤروف من سلاحه. تصفية المناضلين الكبيرين المحامي العيد العمراني وجورج رافيفي اللذين التحقا بجيش التحرير في أواخر 1955 بعد أن حاورهما مصطفى بن بولعيد طويلا، غداة فراره من سجن الكدية (قسنطينة) مساء 10 نوفمبر من نفس السنة. ويخبرنا الشاهد: ”أن التصفية شملت عناصر شيوعية أخرى، وضربت بقوة بعض العائلات خاصة مثل: رفرافي، تاسوريت، عمران وطهراوي.. (*) العيد العمراني، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ونقيب المحامين في باتنة. جورج رافيفي، خبير في الحرب الشعبية، وهو من قدماء الكتائب الدولية التي حاربت إلى جانب الإسبان أثناء الحرب الأهلية منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. ... نتهى