لماذا يصرّ قادة الأحزاب في الجزائر على البقاء ولا يرحلون إلا بالموت أو الانقلاب بدءا من مصالي إلى يومنا هذا؟ هذا هو السؤال الإشكالي الذي حاول محمد بغداد أن يرسم أفقا للإجابة عليه في كتابه الموسوم ب ”النزعة الانقلابية في الأحزاب الجزائرية” الصادر مؤخر عن دار الحكمة 2013. إن أهمية الكتاب تكمن في مساءلته لواقع عياني قائم، ومقاربته لظاهرة استفحلت في ساحتنا السياسة منذ عقود من الزمن بعيدا عن الإستيهام والتجريد، وهي هذا النزوع الانقلابي لدى الفاعلين في الحقل السياسي من خلال هذه الحركات التصحيحية أو التقويمية التي هزّت كيان أكثر وأغلب الأحزاب الجزائرية بما فيها الأحزاب التي عرفت بالكبيرة. وفي ظنّي أن هذا النزوع الانقلابي يكاد يتحوّل إلى علامة جزائرية مسجّلة، يستحيل معها التأسيس لأي عمل جمعوي أو جماعي فضلا عما عرف عن المزاج الجزائري الحاد الذي لا يقبل أي انقياد أو رضوخ لأي سلطة مهما يكن نوعها... ومن هنا يكمن النظر إلى هذه الظاهرة على أنها مظهر من مظاهر العنف غير سوي الذي طال الكثير من مناحي حياتنا الاجتماعية، السياسية والجمالية، يضاف إلى العنف الذي يستشري في الملاعب وفي الأسرة وفي الشارع وفي المدارس، أو في سواها.. ولذلك فإن تشابك جذورها ومبررّاتها يتطلّب مقاربتها من زوايا وأبعاد متعدّدة، ومن ثم يستحيل عزلها عن السياقات المحيطة بها سياسيا وسوسيوثقافيا. وبقدر ما تؤشر الظاهرة إلى النزوع الفردي المقيت والمريض بحبّ القيادة والزعامة، بقدر ما تشير إلى إفلاس النخب في التأسيس لمناخ وممارسة ديمقراطية تقوم على التداول والقيم المشكّلة لكلّ الأسس التي تقوم عليها الأمم المتحضرة. يصرّ محمد بغداد على أن كتابه ليس دراسة أكاديمية، وليس رصدا كرونولجيا للنزعة الانقلابية في الأحزاب الجزائرية عبر التاريخ، فذلك شأن الباحثين والمؤرخين لكن المؤكد أن الكاتب يستعير الكثير من الأدوات الناجعة التي تكاد تتجاوز كل ذلك، وبالنهاية تؤدي غرضها المنشود بامتياز في تقديم تفكيرات ورؤى تعتمد على التأمل المعرفي بقدر ما تستند إلى الملاحظة والموضوعية. لا يمكن فصل ظاهرة النزوع الانقلابي عن جذورها الممتدّة في تاريخ الحركة الوطنية وما بعدها، بما أنتجته من آليات لمحاصرتها ومطارداتها والالتفاف على منجزاتها، كما لا يمكن عزلها عن المشهد الإعلامي الذي تتغذّى منه وتغذيه بكثير من اللغط والجدل الحقيقي والمفتعل على السواء. أكاد أجزم أن الكتاب لو صدر باللغة الفرنسية لكان له شأن آخر مع التعاطي الإعلامي والتحليل وإثارة سجالات لا حدّ لها، أمّا وقد صدر باللغة العربية فإن حدود تلقّيه وانتشاره تبقى محكومة بنوع من البلادة واللامبالاة تجاه كثير من الأشياء الجميلة واللافتة التي تمرّ دون انتباه يذكر. ”النزعة الانقلابية في الأحزاب الجزائرية” كتاب يستحقّ كل التثمين لأنه يطؤ منطقة بكرا بشكل غير مسبوق، مازالت حكرا على التناول الإعلامي بما يتسم به من معالجة آنية وسطحية وتوظيف سياسوي، وأكثر من ذلك ينتزعها من هذه المعالجة التي تكاد تدرجها في خانة الشفاهي لتضعها تحت محك المساءلة البحثية برؤية ثاقبة ووعي كبير لا يحسنه إلا بغداد. أحمد عبدالكريم