رقمنة نظام الحالة المدنية مجرد كذبة والملايير في مهب الريح يضطر أي مواطن تقوده أقداره التعيسة إلى بلدية سيدي امحمد لاستخراج وثيقة الحالة المدنية إلى الانتظار يوما كاملا، رغم أن استخراج وثيقة الميلاد لا يستغرق أكثر من خمس دقائق، خاصة مع رقمنة أرشيف الحالة المدنية الذي صرفت عليه الدولة ملايير الدينارات فقط من أجل تستهيل سير مصالح الناس، ولكن..؟ الساعة تقارب الثامنة والنصف صباحا، مبكرا امتلأت القاعة الكبيرة المخصصة لوثائق الحالة المدنية عن آخرها، وكانت سلسلة الطابور قد وصلت إلى آخر الجدار. شيوخ، نساء حوامل، رجال، أطفال المدارس.. كل هذا الخليط من البشر جاء في هذا الصباح بحثا عن وثائق الحالة المدنية لسبب أو لآخر. عليك الانتظار أكثر من ساعة ليصلك الدور في الطابور، خاصة إذا فاتك أن تأتي قبل الثامنة صباحا. عندما تصل إلى الشباك عليك أن تواجه لامبالاة الموظفة الجالسة أمام جهاز الحاسوب، فقد تقوم من مكانها دون سابق إنذار وتغادر إلى مكتب أو جهة أخرى تاركة من في الطابور ينتظرون. وبعد زمن قد يطول تعود السيدة أو الآنسة وتسألك عن مرادك، تمد لها أنت الدفتر العائلي.. من فضلك شهادة ميلاد أصلية، تسمع صوت الحاسوب وهو يتقيأ الوثيقة مثل ورم سرطاني، تمدها إليك تتأملها أنت وبعجب تقول.. يا سيدة لقبي لا يُكتب بهذه الطريقة، ترتسم علامات الحنق والانزعاج على وجه السيدة وتخاطبك غاضبة.. كيف لا بل يكتب هكذا الحاسوب يقول هذا؟؟ ولكنك تصر أنه منذ قرون وأجدادك يكتبون اسمهم هكذا. بعد مناقشة يائسة تمدك بالوثيقة وتوجهك لتذهب إلى الشباك رقم 17. الموظف غير موجود الآن وقد غادر على الأرشيف ليتأكد من أسماء وتواريخ الميلاد من كانوا خلف الشباك رقم 17. يعود بعد زمن امتد لساعة وينادي على الأسماء. تنظر خلفك وإذا بنصف الطابور الذي كان عند الشباك رقم 2 قد انتقل إلى هنا. الموظف المسكين الذي يقضي نهاره ”طالع نازل” من وإلى الطابق العلوي يقوم بتدقيق معلومات الوثائق، في الحقيقة كان عمله جهد إضافي ووقت ضائع من أعمار الناس وأموال مهدورة من خزينة البلد، لأنه في الحقيقة كان يقوم بتكرار العمل الذي قام به الحاسوب وصرفت عليه الدولة الملايير من أجل إدخال بيانات الأشخاص في النظام الآلي. فما فائدة أن نقوم برقمنة الوثائق إذا كنا سنلجأ من جديد إلى الأرشيف لنعيد تصحيح ما كُتب؟!. ”وهيبة” تتحول إلى ”وهيب” و”جمال” إلى ”دلال” ومن المفارقات التي لا يمكن أن تحدث إلا في الجزائر، الأخطاء الكثيرة وغير المقبولة التي تحدث في أسماء الناس وحالاتهم المدنية، أحدهم جاء من أجل وثيقة شهادة الميلاد ابنته اسمها وهيبة لكن إدارة البلدية أسمتها وهيب، يعني تم تذكير المؤنث رغم أنف الأب المسكين، الذي أخذ في الاحتجاج لكن دون فائدة. والجدير بالذكر أيضا أن نصف من كانوا في الطابور أصر حاسوب الحالة المدنية أنهم عزاب وغير متزوجين، رغم أن بعضهم لديه أبناء وأحفاد، لكن من يصدقهم؟ كهل كان يقف في الطابور حانقا:”جئت إلى هنا أكثر من 3 مرات وفي المرات الثلاث كان يعاد نفس الخطأ دون أن يعطى له تفسير”. الساعة تجاوزت العاشرة صباحا وأغلب من في الطابور لم يكونوا قد أنهوا أشغالهم بعد أواستلموا وثائقهم، فبين شباك وآخر يضيع الوقت وتنهار الأعصاب ويكثر الصياح والاحتجاج، وأكثرالضحايا هم كبار السن من العجائز والشيوخ الذين لا يحسنون القراءة والكتابة، فأكثرهم سيعود في اليوم الموالي للمطالبة بتصحيح الخطأ، فقد صارت زيارة بلدية سيدي امحمد ”كوشمار” يوميا لكل من اضطر لزيارتها لسبب أولآخر. أحدهم كان يثرثر حانقا عن حال البلد وفوضاه: ”لقد صارت زيارة البلدية أشبه بزيارة المستشفى يطلع لك السكر وضغط الدم من أجل وثيقة”، آخر رد عليه ”يا خو أنا عندي شهر وأنا نجري من أجل تصحيح خطأ في شهادة الميلاد من أجل استخراج جواز السفر بسبب خطأ ارتكبه أميّ هنا، وما زلت إلى اليوم نجري من كولوار لخوه و شباك يرميه لآخر يا خي بلاد ياخي”.. إلى هنا كانت أصوات من في القاعة قد اختلطت ببعضها وعلا الاحتجاج. الجماعة تطالب بحضور مسؤول الحالة المدنية من أجل النظر في المشكل وإيجاد حل، في الوقت الذي هم البعض باقتحام مكتب المسؤول، كان موظف الأرشيف قد عاد وبدأ في المناداة على جماعة أخرى لنفس الغرض ونفس الأسباب.. تصحيح الأسماء. الموظف يرد..”أنا ماشي روبو” وعلى من أراد إثبات أنه فعلا متزوج عليه أن يأتي بوثيقة ”الإشعار بالزواج” تستخرج من المكان الذي شهد عقد القران، يعني من كان مولودا في سيدي امحمد و عقد في الجلفة عليه أن يعود من حيث أتى خاليا الوفاض وربما بضغط دم مرتفع، البعض يلقي باللائمة على موظفي الحالة المدنية بضعف المستوى وعدم الكفاءة.. والتعريب، فأرشيف الإدارة الجزائرية كله بالفرنسية وتعريبه بصفة ارتجالية أوقع العاملين فيه في أخطاء كبيرة، خاصة ما تعلق منها بأسماء الأشخاص والأعلام والأماكن التي تترجم عادة ترجمة حرفية من الفرنسية إلى العربية. موظفو الحالة المدنية - من جهتهم - يرون أن هذا إجحاف كبير في حقهم، فحجم الضغط اليومي الذي يعترضون له يقول أحد القابعين خلف الشباك لا يمكن تصوره.. ”نستخرج عشرات بل مئات الوثائق في اليوم الواحد ونتلقى السباب والشتائم مضطرين لتحمل غضب وظروف الناس، لكن أحيانا يطفح الكيل، لسنا مسؤولين على كوارث الإدارة”. أضاف أحدهم مدعما كلام زميله ”نحاول تقديم كل ما نستطيع من أجل الوفاء بالتزاماتنا تجاه الناس لكن في أحيان كثير يتجاوزنا الأمر والظروف ،فهل يمكن مثلا أن نتصور أن موظفا واحد يمكنه أن يقضي كامل يومه ”رايح جاي” بين الأروقة وقاعات الأرشيف يقلب ويدقق دون أن يخطئ أويغضب و يثور هل هو روبو؟”. سيدي امحمد ليست استثناء يجمع الذين التقينا بهم في أروقة بلدية سيدي امحمد أن الحالة التي تعاني منها هذه البلدية ليست استثناء في الجزائر، خاصة في بلديات العاصمة وبعض المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية المرتفعة. فالمواطن يعاني الأمرين من أجل وثيقة بسيطة قد لا يستغرق استخراجها دقائق فقط، كما يجمع هؤلاء أن رقمنة وثائق الحالة المدنية مجرد كذبة كبيرة لأن آثارها لم يلمسه المواطن البسيط في حياته اليومية، وربما قد نستغرق وقتا أكبر لنصل إلى هذه المرحلة.