تابع للجزء الأول نشر يوم 2013/06/13 ماذا كان يقصد هذا القائد الوطني الكبير، المؤمن الصادق المخلص لهذا الوطن العظيم؛ الجزائر. هذه الجملة يكررها الكثير من المجاهدين المرافقين له، في المعركة الوطنية الكبرى، مناضلا ومجاهدا. بقيت هذه العبارة لغزا، لم تكن الشجاعة تنقص القائد البطل الذي استشهد في المعركة؛ ولم يدر بخلده، لحظة، لا اليأس ولا الفشل؛ ولم يفارقه الإيمان، فيما يقوم به من النضال والجهاد في سبيل تحرير الوطن، ولم تفارقه الثقة في النفس، ولا في الشعب. ماذا، إذن، كان يقصد بهذه الجملة المقتضبة اللغز، لقد قالها، بالتأكيد، عن عمق إدراك ووعي، ونظرة شاملة للمستقبل. إننا لم نحاول أن نناقش هذه الجملة، وما كان وراءها، أو نحاول فهمها وتفسيرها، وإدراك أبعادها. كما لم نراجع الكثير من المواقف والمراحل الخالصة للثورة، ولا في مسيرة الحركة الوطنية ومواقفها، والميراث العظيم الذي تركته لنا، لم ننتبه، ولم نفكر في القيم، والمبادئ، والمواقف والخصال التي كان يتمتع بها قادة الثورة، وقادة الحركة الوطنية الكبار. هل تنبأ القائد زيغود يوسف، بهذه الجملة اللغز بالمستقبل، مستقبل الثورة واستمرارها، بالأزمات والصراعات السياسية، والأطماع في السلطة، أو في الثروة، والأنانية الشخصية. تنبؤ شفاف، بالفشل، والنكسات، والتراجعات التي لحقت بثورة شعبية عملاقة، غيرت مجرى تاريخنا المعاصر. تولى الرئيس علي كافي قيادة الولاية الثانية. كان القائد الجديد يحمل معه ميراث الحركة الوطنية، والتجربة الغنية التي خاضها القائد زيغود يوسف، إضافة إلى التربية العائلية الأصيلة. والشعب الذي نشأ وترعرع فيه، حافظ على تقاليد الولاية التي رسخها القادة الذين سبقوه، في القيادة والانسجام والاستقرار، وتجنب العنف، والصراعات الجانبية. لم تقع في الولاية بقيادته، مشاكل خطيرة، كان على صلة بالولاية الأولى، والولاية الثالثة التي كان يقودها العقيد عميروش. بالتنسيق معه، أوقفت، المؤامرة التي نظمتها المخابرات الفرنسية وسميت ب “لابلويت” والتي أشاعت بأن الطلبة المضربين الذين التحقوا بالثورة، بعثتهم مخابرات الاحتلال الاستعمارية، مما بعث الشكل لدى بعض قيادة الثورة في أولائك الطلبة الذين اختاروا أن يكونوا مع شعبهم على البقاء في مقاعد الدراسة. كادت هذه المؤامرة أن تلحق بالثورة ضررا كارثيا. نصح علي كافي قائد الولاية الأولى العقيد لعموري أن لا يدخل في خصام مع قادة الثورة، ولا مع الحكومة المؤقتة. كان القائد علي كافي صديقا قريبا للعقيد لطفي قائد الولاية الخامسة في الغرب الجزائري، كان هذا القائد من أعظم وأكبر قادة الثورة الجزائرية إدراكا لمعنى الثورة ومستقبلها، أهدى ساعته الخاصة إلى القائد علي كافي. كان تبادل هذه الهدايا البسيطة تقليدا بين المجاهدين، كذكرى ووفاء، بالإضافة إلى ذلك، بعث العقيد لطفي رسالة إلى صديقه علي كافي يوصيه فيها “عندما تستقل الجزائر لا تسلموها إلى “الابناك” المقاعد العامة في الشارع التي يجلس عليها المارة. أي لا تسلموها إلى الجهلة المحدودي الفهم، والذين لا يدركون مسؤولياتهم تجاهها”. انتقل القائد علي كافي إلى الخارج لتمثيل الثورة في مصر. ثم بعد الاستقلال كسفير للجزائر في سوريا ولبنان، وليبيا وتونس. عندما كان في ليبيا، زار الرئيس جمال عبد الناصر ليبيا، زار علي كافي في منزل السفارة الجزائرية، تناول معه عشاء عائليا. بعد وقف القتال، وافتكاك الجزائر استقلالها من قبضة الاحتلال الفرنسي تجنب المجاهد علي كافي الدخول في الصراعات التي جرت في أزمة 1962. والأزمات التي جاءت بعدها، فهو قد ترأس مؤتمر طرابلس الذي حدثت فيه الفتنة الكبرى، وأدى إلى تفكيك نظام الثورة، وتشتيت قادتها الكبار. كان وهو يترأس المؤتمر، يشاهد معالم تلك الفتنة، وما جرى فيها من صراعات يدرك بوعي عميق ما هو قادم. كانت أصعب مرحلة، في نهاية مشواره النضالي، هي عضويته في المجلس الأعلى للدولة برئاسة الرئيس الشهيد محمد بوضياف. كان بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، وقبل مجيء الرئيس محمد بوضياف، متخوفا من حمام دم قادم في البلد. بعد الاغتيال الفظيع للرئيس محمد بوضياف، ترأس الرئيس علي كافي المجلي الأعلى للدولة. لم يكن راغبا في هذه المسؤولية، ولا حريصا عليها ولا على البقاء فيه. مثله مثل الرئيس محمد بوضياف. كان يدرك خطورة الأزمة التي تمر بها الجزائر. وأن الأزمة تهدد الدولة الوطنية بالانهيار، وتدفع الجزائر نحو المجهول، وتقضي نهائيا على مكاسب الثورة الجزائرية، وتلغي كل تضحيات الشعب الجزائري التي قدمها عبر الاجيال المتعاقبة. كانت لكلى الرجلين، بوضياف وكافي، رؤية ووجهة نظر إلى الأزمة. الرئيس محمد بوضياف يرى للخروج من الأزمة؛ العودة إلى الشعب، وبناء نظام سياسي مدني قوي، تدعمه قوة سياسية وطنية متجذرة شعبيا من الشباب من أبناء الاستقلال. الرئيس علي كافي يرى أن الخروج من الأزمة يأتي عن طريق العودة إلى الشعب، وإلى الخط الوطني الذي أسسته الحركة الوطنية، وقامت على أساسه الثورة الجزائرية المنتصرة، في إطار بناء نظام جديد مبني على المشروع الوطني الكبير المتجدد. وكان يرى أن جبهة التحرير الوطني، يمكن أن تقوم بهذا التجديد، وأن تقود حركة التغيير الواسعة التي تحتاج إليها البلاد؛ إذ اكنت لها قيادة وطنية مدركة لمسؤوليتها التاريخية، وعادت إلى الشعب، وإلى تقاليد الحركة الوطنية النضالية. واعتمدت على الشباب من أجيال الاستقلال المتعاقبة. أثناء رئاسته للمجلس الأعلى للدولة، جرى نقاش واسع وعميق حول طبيعة الأزمة، وطريقة الخروج منها. قاده أعضاء المجلس الأعلى للدولة في حوار مع الأحزاب، بما فيها الأحزاب ذات التوجه الإسلامي التي رفضت العنف الإرهابي وكذلك مع المنظمات الجماهيرية، وممثلي الجمعيات المدنية. كانت النقطة الأساسية؛ وقف نزيف الدم الجزائري كأولوية. وفتح المجال لبناء نظام سياسي شعبي ديمقراطي اجتماعي متين تستقر عليه البلاد. نظام مبني على السرية، والمشاركة الشعبية. وكان التوجه؛ أن هذا النظام السياسي الجديد يؤسس ويبنى عن طريق نظام عقلاني سياسي، شعبي، بعيدا عن الشعبوية الديماغوجية، وعن كل أشكال الاحتكارات التي تمنع مكونات الشعب الجزائري من التفاعل والإثراء المتبادل. وفتح المجال أمام المشاركة الشعبية الواسعة. منع الاحتكار السياسي، وإقرار نظام التداول على السلطة، سلميا وديمقراطيا. الاحتكار الاديولوجي الذي يدفع إلى الجمود، ومنع الأمة من الاستفادة من الأفكار المتنوعة التي تزخر بها القوة الحية للأمة. الاحتكار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والفكري، لا يحق لأية ايديولوجية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أن تمنع الاجتهادات المختلفة للطاقات الحية في البلاد. الاحتكار الديني واللغوي، والجهوي، ومنع العنف المادي واللفظي في الممارسة السياسية. للوصول إلى ذلك أنشئت اللجنة الخاصة، لجنة 2005 من أساتذة الجامعة، ومن الاطارات الوطنية، لإجراء مسح كامل، ودراسة شاملة لأوضاع البلاد، واماكنياتها المادية والبشرية، ونظامها الإداري والسياسي المستقبلي. وتقديم مشروع وطني شامل للتنمية في جميع المجالات ووضع الشروط الموضوعية لتسيير البلاد على أساس علمي معرفي، وعلى معطيات حقيقية، واتخاذ القرارات الوطنية الكبرى على أساسها. وليس على أساس الارتجال، والمعرفة الظنية، والأهواء الشخصية، على أن تتوسع اللجنة إلى الاطارات المختصة، وأن تتحول إلى هيئة دائمة، ومجموعة من المراكز الدراسية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. للأسف أن هذا النقاش توقف، لأن التجربة التي ترسخت لدينا مبنية على القطيعة وليس على التراكم والاستمرارية، التي يتطلبها التطور الطبيعي الايجابي.