يجوز للمراقب البعيد عن ساحة التطورات المصرية تسمية مسلسل أحداث مصر, التي بلغت ذروتها بتنحية الرئيس محمد مرسي عن السلطة, بالانقلاب العسكري. إلا أن وصفها الأدق قد يكون أنها أول انقلاب ”شعبي” في العالم العربي يتجاوب العسكر معه. حبذا لو تدارك الحكم ”الإخواني” الوضع قبل تفاقمه وأتاح للمصريين فرصة تحقيق انتقال طبيعي للسلطة عبر انتخابات رئاسية مبكرة, ووفر على العسكر بالتالي مشقة العودة إلى الساحة السياسية ولو من بابها الواسع. ولكن حزبا يدعي احتكار الإسلام إلى حد جعله وقفا عليه وعلى تنظيمه لا ينتظر منه التخلي عن احتكاره للسلطة بعد ثمانية عقود من السعي الحثيث لاقتناصها. على هذا الصعيد, يمكن القول إن الإخوان المسلمين في مصر, وربما في غفلة من الدهر, أعطوا ملكا لم يحسنوا إدارته فحسب بل استعملوه لشرذمة المصريين وتقويض اقتصادهم. إذن, ”ربيع مصر” يزهر من جديد, ولكن برعاية مؤسسة عسكرية غير حزبية. وهذه المعادلة الغائبة عن ”ربيع” سوريا تفسر, إلى مدى بعيد, عثرات الربيع السوري في مواجهة مؤسسة عسكرية حزبية لا خيار لها سوى حماية السلطة لحماية رأسها. ميزة ”انقلاب” مصر أن المشاركة الجماهيرية الواسعة لكل أطياف المجتمع وتلاوينه في التظاهر ضد حكم ”الإخوان” تنفي ما حاول ”الإخوان” تصويره وكأنه انتصار لليبراليين واليساريين على الإسلام, بينما هو, في الواقع, انتصار ل”المسلمين” على ”الإسلاميين”, أي على مسيسي الإسلام لأهداف حزبية ضيقة. خلافا لكل ما يدعيه ”الإخوان”, لم يسقط الإسلام بسقوطهم في مصر بل استعاد صدره التسامحي الرحب الذي يتسع لكل المصريين كائنة ما كانت معتقداتهم الوجدانية, ومهد لعودة الاستقرار إلى مجتمعها. ولكن, وبصرف النظر عن توصيف طبيعة الانقلاب, يصح التساؤل عما إذا كان توقيته خدم ”الإخوان المسلمين” أم أساء إليهم. الطريقة الجماهيرية, الشعبوية التي تخلص فيها المصريون من حكم ”الإخوان” قد تحمل البعض على اعتبارهم ضحايا ردة غير ديمقراطية على الشرعية, مما قد يتيح لهم توسل الالتزام باللعبة الديمقراطية عنوانا جديدا لعودتهم إلى الساحة السياسية في مصر, بينما لو تركوا في الحكم فترة أطول لكانوا أنهوا أنفسهم بنفسهم.. ولكن على حساب اقتصاد مصر وسلمها الأهلي. محاولة ”الإخوان” التستر بالشرعية للتمسك بالحكم وتغطية فشلهم في تمثيل كل المصريين تبرز ما يمكن اعتباره علة الأنظمة الديمقراطية الحديثة: العلاقة المتبدلة بين ”الشرعية” و”الشعبية” خلال عهد رئاسي واحد. على هذا الصعيد, يصح القول إن ”شعبية” الرئيس مرسي فارقت ”شرعيته” منذ أصدر إعلانات نوفمبر (تشرين الثاني) الدستورية وحول فيها منصبه إلى ”فرعون” جديد وحكومته إلى ”امرأة قيصر” جديدة: هي ”فوق الشبهات” وهو فوق الانتقادات. ورغم أن الاحتجاجات الشعبية اضطرته إلى التراجع عن إعلاناته, فإن مجرد إصدارها أطاح بثقة شريحة واسعة من المصريين في حكمة قراراته وأبعاد حكمه. والواقع أن أحداث مصر الأخيرة كشفت قصور الأنظمة الديمقراطية عن طرح صيغة دستورية تربط شرعية الحاكم والحكم بشعبيته. ومع التسليم بأن صيغة الاستفتاء الشعبي قد تكون مؤشرا صادقا لمدى تمثيل الحاكم للشعب في مراحل معينة من عهده, فمن الملاحظ أنه لم يسبق لأي حاكم منتخب ديمقراطيا أن طرح على شعبه التصويت بالثقة عليه, باستثناء الرئيس الفرنسي شارل ديغول عام 1969. في هذا السياق, قد يكون قرار المؤسسة العسكرية المصرية تعليق العمل, مؤقتا, بالدستور المصري فرصة تاريخية للمشرِّع المصري لاستباق أي دستور ديمقراطي آخر في اعتماد نص يربط الشرعية بالشعبية ويوفر على العباد أعباء النزول إلى الشارع كلما اختلت هذه المعادلة, وعلى الجيوش التدخل في السياسة. أما عمليا, فإن ما حدث في مصر كان سباقا بين الانهيار الذاتي المكلف لحكم الإخوان المسلمين, وما يستتبعه من تداعيات اجتماعية واقتصادية كارثية, والقلق العام المبرر من تخبطهم في تجربة لم يسبق لهم أن اختبروها على مدى العقود الثمانية لقيام تنظيمهم.