اعترافات قاتل إقتصادي كتاب ل”جون بيركنز” العميل السابق لوكالة الامن القومي الاميركية ، يقدّم فيه شهادة من الداخل عن الدور الذي تلعبه البنوك والشركات العالمية لسرقة دول العالم الثالث وإغراقها بالديون ومن ثم وضعها تحت إشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بينما تسرق الشركات المتعددة الجنسيات، مثل هاليبرتون و بيكتل مواردها بحجة التنمية. يقول بيركنز ان القتلة الاقتصاديين هم قتلة محترفون، يقبضون أعلى الأجور، ليبتزوا رؤساء الدول في شتَّى أنحاء العالم، ويسرقوا مليارات الدولارات منها. وكان بيركنز نفسه أحد هؤلاء القتلة،جنّدته (سي آي إيه) سرّاً، وعمل معها تحت غطاء عمله في شركة استشارية دولية، فزار أندونيسيا وكولومبيا وبنما والإكوادور والمملكة العربية السعودية وإيران وسواها من الدول التي تمتلك أهمية في الاستراتيجية الأميركية. وكانت مهمّته تتركّز على تطبيق السياسات التي تخدم مصالح تحالف أميركي، يضمّ الحكومات،والشركات في الوقت نفسه العمل على تسكين أعراض وآثار الفقر إجراءات ظاهرية خادعة. وترك الكاتب وظيفته بعد تفجيرات11 أيلول 2001، ونذر نفسه لفضح هؤلاء القتلة- الذي كان هو نفسه يوما واحد منهم – من خلال كتابه اعترافات قاتل اقتصادي، وأهداه إلى روحَي رئيسين سابقين، لدولتين من دول امريكا اللاتينيَّة، هما الرئيس الأسبق للإكوادور خايمي رولدوس، والرئيس الأسبق لبنما عمر تورِّيخوس، وكلاهما قُتلا في حادث طائرة مُفتعل على حدِّ وصف الكاتب، ذلك “لأنَّهما وقفا في وجه الشركات والمصارف والحكومات التي تهدف إلى إقامة إمبراطوريَّة عالميَّة عن طريق نهب ثروات بلدانهم الطبيعية . والذي ذهب هو بنفسه اليهما وحاول ابتزازهما ولكنهما رفضا ، فتعرضا للاغتيال بأسقاط طائراتيهما الرئاسيتان.الكتاب ترجمه الكاتب الاردني بسام ابو غزالة عبّر شارلي عن تعاطفه معي لاضطراري إلى مغادرةَ باندُنغ لأذهب إلى تلك المدينة الحارة الرطبة. أما أنا فقد تظاهرتُ بكرهي هذه الفكرة؛ لكنني في سرِّي كنتُ سعيدا جدا بهذه الفرصة لكي آخذ وقتاً ألوذُ به إلى نفسي، وأستكشفُ فيه جاكارتا، وأعيشُ في فندق إنتركنتننتال إندونيسيا الأنيق. لكنني، إذ وطئتُ جاكارتا، اكتشفتُ أنني الآن أرى الحياة من منظور مختلف. فقد غيَّرتني تلك الليلةُ التي قضيتُها مع راسي والشباب الإندونيسيين؛ كذلك فعلَ بي ترحالي في البلاد. وجدتُني أرى زملائي الأمريكيين بطريقة مختلفة. ولم أعد أرى الزوجاتِ الصبايا جميلاتٍ إلى هذا الحد. أما السلسلةُ التي تسيِّجُ المسبح، والأعمدةُ الحديدية خارج نوافذ الطبقات الدنيا من الفندق، تلك التي لم أكد انتبه لها من قبل، فقد اتخذت الآن مظهرا مشؤوما. كذلك بدا لي الطعامُ في مطاعم الفندق الأنيقة بلا طعم. لاحظتُ شيئاً آخرَ أيضا. في أثناء اجتماعي بالقادة السياسيين ورجال الأعمال، انتبهتُ إلى بعض المكر في طريقة معاملتي. لم أدرك ذلك من قبل، ولكنني أصبحتُ أرى أنّ الكثرةَ منهم لم يُعجبهم وجودي. من ذلك مثلا، حين كانوا يُقدمونني بعضُهم لبعض، كانوا غالباً ما يستخدمون عباراتٍ من اللغة الإندونيسية، معناها، حسب مُعجَمي، “محقِّق” و”مستجوِب”. وكنتُ كتمتُ عن قصد معرفتي بلغتهم – حتى ترجماني نفسُه لم يكنْ يعرف إلا أنني أستطيع أن أسرد بعض العبارات المحفوظة فقط – وكنتُ اشتريتُ مُعجما جيدا للغتين الإنكليزية والإندونيسية، غالبا ما كنتُ أستعمله بعد اجتماعي بهم. أكانت هذه المخاطباتُ صدفةً لغوية، أم سوءَ تأويل في معجمي؟ حاولتُ أن أقنع نفسي بذلك. بيد أني كلما قضيتُ مع هؤلاء القوم وقتا أطول، ازددتُ اقتناعاً بتطفُّلي عليهم، وبأنّ أمراً بالتعاون معي أُلقي عليهم من علٍ، فلم يملكوا له إلا الطاعة. لم تكن عندي فكرةٌ عن مَن أصدرَ هذا الأمر؛ أكان أحدَ المسؤولين في الحكومة، أم أحد المصرفيين، أم ضابطا في الجيش، أم السفارةَ الأمريكية؟ كلُّ ما أعرفه أنه، بالرغم من دعوتي إلى مكاتبهم، وتقديمهم الشاي لي، وإجابتهم على أسئلتي بأدب جمٍّ، وترحيبهم الواضح بوجودي، إلا أنّ ظلالاً من الابتعاد والحقد كانت تمورُ تحت السطح. جعلني هذا أتساءل أيضا عن أجوبتهم على أسئلتي وعن صحة معطياتهم. من ذلك مثلا، أنه ما كان بمقدوري قطُّ أنْ أدخلَ هكذا إلى مكتبٍ ما، مصطحبا ترجماني، وأجتمعَ بأحد. كان علينا أنْ نتفقَ مسبقاً على موعد. ولم يكن هذا غريبا بحد ذاته؛ غير أنه كان مفرطاً في تبديد الوقت. وإذ كان من النادر أن تعملَ الهواتفُ، كان علينا أنْ نسوق السيارة في شوارعَ مختنقة بالحركة، ومخططةٍ بطريقةٍ ملتويةٍ، بحيث كان يُمكنُ أنْ يستغرقنا ساعةً كاملةً وصولُنا إلى عمارةٍ لا تبعد عنا سوى مسافة قصيرة. فإذا وصلنا، توجَّبَ علينا أن نملأ عدة نماذج. بعد ذلك يأتي سكرتيرٌ ليسألني بأدب جمٍّ – وبالابتسامة اللطيفة التي اشتُهِرَ بها الجاويون – عن نوع المعلومات المطلوبة. وبعد ذلك يُحدِّدُ موعداً للاجتماع. وبدون استثناء، كان الموعدُ يُضربُ بعد عدة أيام على الأقل. وحين يُعقَدُ الاجتماعُ أخيراً، كانوا يُسلِّمونني ملفاً فيه موادُّ معدةٌ سلفا. كان أصحابُ الصناعات يُعطونني خططا لخمس سنوات وعشر. وكان لدى المصرفيين جداولُ ورسومٌ بيانية. بينما كان المسؤولون الحكوميون يُعطونني قوائم لمشاريع في سبيلها إلى مغادرة لوحات الرسم لتصبح محركاتٍ للتنمية الاقتصادية. كلُّ ما جاء به أربابُ التجارة والحكومة، وكلُّ ما قالوه خلال المقابلات، كان يدلُّ على أنّ جاوة جاهزةٌ ربما لأعظم ازدهار شهده أيُّ اقتصاد أبدا. لا أحد على الإطلاق شكَّك في هذا المنطق أو أعطاني أية معلومات سلبية. مع ذلك، حين كنتُ في سبيلي إلى باندُنغ، وجدتُني أتساءل عن كل هذه التجارب؛ كان ثمة شيءٌ مزعج جدا. خطر ببالي أنّ كلَّ ما كنتُ أعمله في إندونيسيا كان أقرب إلى اللعب منه إلى الحقيقة. كأننا كنا نلعب البوكر، حريصين على إخفاء أوراقنا. لم نستطع أن نثق ببعضنا بعضا أو نعتمد على صدق المعلومات التي نتبادلُها. غير أن هذه اللعبة كانت خطيرة بشكل قاتل، ونتيجتُها سوف تؤثر في الملايين من البشر لعقود قادمة.
الجزء الثاني 1971-1975 الفصل السادس دوري كمحقق
كانت عقودُنا مع الحكومة الإندونيسية، وبنك التنمية الآسيوي، والوكالة الأمريكية للتنمية العالمية تتطلّبُ قيامَ أحدِ أعضاء الفريق بزيارة جميع المراكز السكانية المهمة في المناطق التي تغطيها الخطة الرئيسية. وقد انتُدِبتُ للوفاء بهذا الشرط لما عبّر عنه شارلي بقوله لي، “لقد اجتزتَ محنة الأمازون، وتعرفُ كيف تتعاملُ مع الحشرات والأفاعي والمياه الملوثة.” قمتُ، مصطحبا سائقاً ومترجما، بزيارة أماكنَ جميلةٍ كثيرةٍ، وأقمتُ في مساكن كئيبة. قابلتُ قادةً محليين من أهل الأعمال والسياسة، واستمعتُ إلى آرائهم حولَ توقعاتِ النموِّ الاقتصاديّ. لكنني وجدتُ معظمَهم مترددين في إعطائي ما عندهم من معلومات. لقد بدوا متخوفين من وجودي، والتقَوْا جميعاً على مقولةٍ واحدةٍ أنّ عليّ أنْ أراجع رؤساءهم، أو المؤسسات الحكومية، أو المقرات الرئيسية للشركات في جاكارتا. حتى أني أحيانا ما ارتبتُ في وجود مؤامرة ما ضدي. كانت هذه الرحلاتُ في العادة قصيرة، لا تتجاوز يومين أو ثلاثة، وفي ما بينها كنت أعود إلى الوِسمة في باندُنغ. كان للمرأة المسؤولة عن زياراتي ولدٌ يصغرني ببضع سنين، اسمه راسمُن، وكنا جميعا، باستثناء أمه، نُطلق عليه اسم راسي. وإذ كان يدرس الاقتصادَ في جامعةٍ محلية، أثار عملي اهتمامَه، حتى أني ظننتُه سيطلبُ مني أنْ أوظِّفَه. كذلك أخذ يُعلمني بَهاسا إندونيسيا (اللغة الإندونيسية). كان ابتداعُ لغةٍ يسهل تعلّمُها أحدَ أعلى أولويات الرئيس سوكارنو بعد حصول إندونيسيا على استقلالها من هولندة. وإذ كانت ثمّةَ أكثرُ من 350 لغةً ولهجة في أرجاء الأرخبيل،1 أدرك سوكارنو أن هذا البلد يحتاج إلى لغة مشتركة لتوحيد الناس القادمين من جزرٍ وثقافاتٍ شتى. لذلك جنّد فريقا عالميا متخصصا في اللسانيات، فكانت بَهاسا إندونيسيا نتيجة ناجحة جدا. وإذ بُنيت هذه اللغة على لغة الملايو، تجنّبتْ الكثيرَ من تغيُّر صيغ الأفعال، ومن القواعد غير المنتظمة، ومن التعقيدات الأخرى الموجودة في معظم اللغات. وقد أخذ أغلبُ الإندونيسيين يتكلمونها في وقت مبكر من سبعينات القرن العشرين، بالرغم من أنهم استمروا في استعمال اللغة الجاوية وغيرها من اللهجات المحلية في مجتمعاتهم. كان راسي معلما فذّاً وذا حسٍّ فكاهيٍّ رائع. وبالمقارنة بتعلم لغة الشوار أو حتى الإسبانية، كانت الإندونيسية سهلة جدا. كان راسي يملك دراجةً ناريةً صغيرة، وتعهد بتعريفي بمدينته وشعبه. وإذ رجاني ذات مساء أن أركب خلفه، وَعَدَني قائلا، “سوف أُريك جانبا من إندونيسيا لم تره من قبل.” مررنا بعرض لدمى العرائس، وبموسيقيين يعزفون على الآلات التقليدية، وبباعةٍ متجولين يبيعون كل ما يُمكنُ تخيُّلُه، من أشرطةٍ أمريكيةٍ مهربةٍ إلى تحفٍ محليةٍ نادرة. أخيراً أتينا إلى مقهىً صغيرٍ ممتلئٍ بالشبابِ والصبايا تشبهُ ملابسُهم وقبّعاتُهم وأسلوبُ تصفيفِ شعورهم ما يمكن أن يُرى في حفلة للبيتلز في أواخر الستينات؛ لكن كلا منهم كان إندونيسيا بشكل واضح. قدَّمني راسي إلى مجموعةٍ تجلسُ حول إحدى الموائد، وجلسنا معهم. كانوا كلُّهم يتكلمون اللغةَ الإنكليزيةَ بدرجات متفاوتة من الطلاقة؛ لكنهم جميعا أُعجبوا بمحاولاتي تعلمَّ الإندونيسية وشجعوني، متسائلين بصراحةٍ لمَ لا يتعلم الأمريكيون لغتهم. لم أجدْ جوابا، ولم أستطعْ أنْ أفسِّرَ لماذا كنتُ الأمريكيَّ أو الأوربيَّ الوحيدَ في هذا الجزء من المدينة، بالرغم من أنك تستطيعُ أنْ تجدَ الكثرة منا في نادي الجولف والرَّكت، والمطاعم الفخمة، ودور السينما، وأسواق الطبقة العليا. كانت ليلةً فريدةً سوف أذكرُها دائما، وقد عاملني راسي وأصدقاؤه كواحد منهم. لقد استمتعتُ بشعور من الفرح لذهابي إلى هناك، ولمشاركتي مدينتَهم وطعامَهم وموسيقاهم، ولاستنشاقي رائحة لفافات القرنفل وغيره من العطور التي كانت بعضاً من حياتهم، ولمزاحي وضحكي معهم. كان الوضعُ يُشبهُ فرقةَ السلام مرة أخرى، ووجدتُني أتساءل لمَ فكَّرتُ بالرغبة في السفر على الدرجة الأولى نائياً بنفسي عن مثل هؤلاء القوم. وإذ كاد الليلُ ينقضي، أصبحوا مهتمين كثيرا بمعرفة رأيي عن بلادهم وعن الحرب التي كانت بلادي تخوضُها في فيتنام. فقد كان كلُّ واحد منهم مرتعباً مما وصفوه ب”الغزو اللاشرعي”. وقد ارتاحت نفوسُهم حين اكتشفوا أنني أشاركُهم مشاعرهم. حين عدنا، راسي وأنا، إلى المضافة، كان الوقتُ متأخراً والمكان مظلما. شكرته شكراً جزيلا أنْ دعاني إلى هذا العالم، وشكرني بدوره أنني انفتحتُ على أصدقائه، وتواعدنا أن نكررها مرة أخرى. ثم تعانقنا ومضى كلٌّ منا إلى غرفته. أثارتْ تلك التجربةُ مع راسي شهيتي لقضاء مزيد من الوقت بعيداً عن فريق شركة مين. في صباح اليوم التالي اجتمعتُ بشارلي وقلتُ له إنني محبطٌ من محاولتي الحصولَ على معطياتٍ من أهل البلاد. أضفْ إلى ذلك أن معظم الإحصاءات المطلوبة لعمل تنبؤاتٍ اقتصادية لا توجد إلا لدى المكاتب الحكومية في جاكارتا. .. يتبع
1 Theodore Friend, Indonesian Destinies (Cambridge, MA and London, The Belknap Press of Harvard University, 2003), p 5.
أُعجبوا بمحاولاتي تعلمَّ الإندونيسية وشجعوني، متسائلين بصراحةٍ لمَ لا يتعلم الأمريكيون لغتهم. لم أجدْ جوابا، ولم أستطعْ أنْ أفسِّرَ لماذا كنتُ الأمريكيَّ أو الأوربيَّ الوحيدَ في هذا الجزء من المدينة.