مع ذكرى رحيل الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، والتي سيطرت على الأجواء كما لم تسيطر من قبل، لا أعرف هل كان مقصودا أم بمحض الصدفة، استخدام رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مصطلحا عرفاتيا خالصا، كان يقوله على الدوام، حين يرغب في إظهار عدم وجود زعيم إسرائيلي يتخذ خطوات ومبادرات شجاعة، على غرار الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول بشأن الجزائر. إلا أن نتنياهو أدخل تعديلا، حيث قال: “لا بد من ظهور بن غوريون فلسطيني يستطيع صنع السلام مع إسرائيل”. لم يفكر نتنياهو مليا في هذه الاستعارة، ذلك أن الفلسطيني الشبيه ب”بن غوريون” من حيث المواصفات التاريخية والقدرات التأسيسية هو ياسر عرفات الذي ما إن اتخذ القرار الصعب بالاعتراف بإسرائيل، تمهيدا لإقامة سلام شامل معها، حتى قتل، ولم يستطع أي أحد على هذا الكوكب أن ينفي - بإقناع - مسؤولية إسرائيل عن قتله بعد موت بطيء استغرق سنوات وهو في سجن المقاطعة، إلى أن ظهرت حكاية البولونيوم، لتضع نقطة في آخر السطر. وعلى الجانب الإسرائيلي كان الشبيه بديغول هو إسحاق رابين الذي اتخذ القرار الحرج والصعب، وصافح عرفات بعد اتهام دام عقودا بأن يده ملوثة بدم اليهود، ومضى قدما في تأسيس سلام مشترك معه. إلا أن الذي حدث ونحن في بداية التجربة، أن قتل رابين فيما يشبه تنفيذ حكم الإعدام، بينما كان يغني للسلام في أكبر ميادين إسرائيل. هذا ما حدث مع بن غوريون الفلسطيني وديغول الإسرائيلي، ويبدو أن نتنياهو لم يلتقط هذه المفارقة التاريخية التي تذكر بحقيقة جوهرية، وهي أن المسدس المتربص بصانع السلام، أقوى فعلا وتأثيرا من القلم المعد للتوقيع على الاتفاقيات. إن السيد نتنياهو الذي يدعو لتوليد بن غوريون فلسطيني، بينما هو يمتلك الوضع القانوني والسياسي لأن يكون رابين القرن الواحد والعشرين، قد كرس نفسه قولا وعملا كرجل يستخدم كل ما بيد إسرائيل من أوراق وقدرات تأثير، لتشتيت السلام وإبعاده عن الدائرة الإسرائيلية الفلسطينية. إن نتنياهو المتلهف لرؤية بن غوريون فلسطيني كي يقتل على الطريقة التي قتل بها عرفات، أصبح تعريفه في قاموس السياسة “الرجل الذي يحتكر التشدد والتطرف”!! ألا يقال في إسرائيل الآن وبعد عودة ليبرمان إلى وزارة الخارجية، إن الوزير المتشدد والمتطرف يبدو أكثر عقلانية من رئيسه، وإن نتنياهو ولا أحد غيره، وضع ليبرمان على يساره ولا أحد يعرف بقية الواقفين في الطابور. لحظة كتابة هذا المقال جرت في إسرائيل لعبة في غاية السذاجة، حيث أعلن وزير الإسكان الذي هو مستوطن بالأساس، عن طرح عطاءات بناء أربعة وعشرين ألف وحدة استيطانية في القدس والضفة الغربية، وفي اليوم التالي أعلن نتنياهو تجميد قرار وزير الإسكان. والقرار الذي جمد كان حبرا على ورق، أما الجرافات التي تنفذ القرارات المتتالية، فلا تزال تعمل وبصورة مضاعفة. وما حدث على صعيد مناورة الإلغاء، وعمل الجرافات على الأرض لا بد أن يدعو العالم للانتباه إلى حقيقة أن التعامل مع الاستيطان الإسرائيلي بالقطعة أمر يتيح مجالا واسعا للتحايل الإسرائيلي الذي يهدف إلى استمرار سياسة الاستيطان على الأرض مع أقل قدر من المعارضة والاحتجاج والإدانة. فحين يجمد نتنياهو قرارا لا يزال حبرا على ورق يقال له شكرا، وحين ينفذ قرارات أخطر على الأرض لا يقال له شيء. إلا أن المحصلة تقول: إن السلام المنشود الذي يسعى إليه العالم كله قبل الفلسطينيين يتبدد فعلا تحت جنازير الجرافات، وهذا هو الواقع على الأرض، والذي لا تغطيه مناورات الإعلان والإلغاء. فهل يقصد نتنياهو بطلبه إيجاد بن غوريون فلسطيني أن يحصل على شريك من الطرف الآخر يوافق على كل هذا؟!