الحديث عن أي نجاح لمهمة وزير الخارجية الأميركي جون كيري في البحث عن تسوية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، أشبه بمن يبحث عن طائر العنقاء أو الخل الوفي. فمنذ فشل مؤتمر كامب ديفيد الثاني، لم تظهر نافذة حقيقية لحل الصراع، حتى عندما حاول الرئيس بيل كلينتون مرة أخرى من خلال ما عرف ب”مقاييس كلينتون”، كان الوقت قد فات، وشبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وصار الصراع مسلحا ومميتا. وحتى حينما حاول الأوروبيون والأميركيون تجربة حظوظهم من خلال ما عرف بخارطة الطريق لم يكن هناك نجاح يذكر. وحينما تصور أرييل شارون من بين كل الناس أن يفتح الطريق إلى حل من خلال الانسحاب من غزة، فإن الانسحاب لم يفض إلى ما هو أكثر منه بالمعنى الحرفي للكلمة حيث بقي الاحتلال قائما بطرق أخرى. وفشلت بنفس القدر محاولة جورج بوش خلال فترة رئاسته الثانية وقرب نهايتها، اللهم إلا في استئناف مفاوضات بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت. عقد كامل مضى من المحاولات وكلها قادت إلى الفشل، فما الذي يجعل النجاح ممكنا هذه المرة؟ قيل إن في الأمر عاطفة خاصة لباراك أوباما الذي فشل أيضا خلال فترة رئاسته الأولى من خلال مبعوثه جورج ميتشل، ولكن فترة الرئاسة الثانية هي التي يبحث فيها الرؤساء عن مكانتهم في التاريخ، وهل توجد مكانة أرفع من تحقيق السلام في أرض الأنبياء والمرسلين؟ وقيل أيضا إن في الأمر مصلحة خاصة لجون كيري لا لكي يدخل التاريخ بقدر ما أن النجاح يجعله مؤهلا للترشيح مرة أخرى للرئاسة الأميركية. ولكن العاطفة أو المصلحة لا تكفي لتحقيق النجاح، ومن ينظر إلى المنطقة يجد فيها كل عناصر الفشل، ترج العقل، وتفطر القلب، وتصدم النظر. المنطقة كلها هائجة ومائجة بتطورات انفجر فيها العراق، وتنفجر فيها سوريا، ومصر منشغلة بأمورها الكثيرة، وكل هذه التطورات تجعلها غير جاهزة لا لصفقة كبرى بين العرب والإسرائيليين، ولا لصفقة صغرى بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وفي إسرائيل توجد حكومة يمينية متطرفة تحترف بناء المستوطنات عند زيارة كل مبعوث أو وزير أميركي. والفلسطينيون في ناحيتهم منقسمون أيما انقسام، وبعد السقوط المدوي للإخوان ”المسلمين” في مصر فإن حماس ليست على استعداد لعقد انتخابات فلسطينية، ولكن لديها كل الاستعداد لحرب فلسطينية داخلية إذا لزم الأمر. كيف تكون هناك فرصة للنجاح إذن لكيري، أم أن المسألة برمتها هي مناورة للتعامل مع الصفقة النووية الإيرانية الأميركية المرتقبة، التي ربما سوف تنتهي إلى إخراج إيران من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي وقطع الحبل السري بينها وبين حماس، والعلني بينها وبين حزب الله. الولاياتالمتحدة هنا ليست بصدد حل الصراع، وإنما هي بصدد إعادة تشكيل الشرق الأوسط وتوازناته الكبرى من خلال نزع أسلحة الدمار الشامل من دول المنطقة، الكيماوية من سوريا، والنووية من إيران، وكلاهما تمت إزالته من العراق خلال حربي الخليج الثانية والثالثة. أهمية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية هنا أنها تجعل هذا النزاع هادئا دون اشتعال يربك الحسابات الأخرى الخاصة بسورياوإيران، ومن يعرف فربما يكون ذلك محفزا للدول العربية في الخليج خاصة لكي تكون أكثر تأهبا مع الصفقة الإيرانية المنتظرة!. والحقيقة هي أنه في النهاية لا يوجد دافع لدى إسرائيل لكي تقدم تنازلا يذكر في المفاوضات تجعلها مثمرة، فإسرائيل تعيش أفضل عصورها الاقتصادية، والأسلحة تنزع عن خصومها في العراقوسوريا الواحدة بعد الأخرى، ومصر منشغلة بمشكلاتها الداخلية، فما الذي يجعل نتنياهو يقبل بالتنازلات الضرورية للتوصل إلى حل؟. المتفائلون رغم ذلك لديهم وجهة نظر أخرى وهي أن هناك فرصة حقيقية للنجاح هذه المرة، لأن هناك دافعا حقيقيا وراء ذلك، وهو أن الفشل سوف يعني الوجود الفعلي لحل الدولة الواحدة ذات القوميتين، وهو كابوس إسرائيلي تريد إسرائيل الاستيقاظ منه بسرعة. فلم يأت اليهود من كل أنحاء العالم ويخوضوا الحروب المتعددة الأشكال وينتجوا القنابل الذرية لكي يعيشوا في النهاية في دولة أغلبيتها من العرب المسلمين والمسيحيين. فالحقيقة كما يراها المتفائلون هي أن الفشل معناه ضرب الفكرة الصهيونية من أساسها، وهي التي قامت على جمع اليهود في دولة تكون لهم فيها الأغلبية الحاسمة الآن وفي المستقبل. بالطبع يمكن لإسرائيل أن تقيم دولة قائمة على قهر العرب كما هو الحال الآن في الأراضي المحتلة أو المحاصرة، ولكن وجود الجميع، العرب واليهود في دولة واحدة سوف يجعل الأمر مختلفا لأن العالم لم يعد كما كان، ولأن الدنيا اختلفت عما اعتادت. الدافع والمحفز إذن موجود، وهناك بالإضافة إلى ذلك عناصر أخرى ذات طبيعة استراتيجية، وهي أن هناك حزمة من التهديدات ذات الطبيعة ”الوجودية” التي تمس العرب والإسرائيليين معا، في المقدمة منها كما يعتقد المتفائلون توجد إيران. وسواء تمت الصفقة الإيرانية أم لم تتم فإن إيران سوف تستخدمها من ناحية لكسب الوقت لإنضاج برنامجها النووي، ومن ناحية أخرى لخدمة مخططاتها في الخليج، ومن ناحية ثالثة للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عن طريق العراقوسوريا ولبنان، وفي ثلاثتهم لإيران وجود وسلاح. ولكن ربما كان الخطر الإيراني ليس في إيران وحدها، ولكن فيما يجذبه نموذجها للدولة الدينية وولاية الفقيه لدى تيارات أخرى في المقدمة منها جماعة الإخوان ”المسلمين” ومن والاهم من جماعات ”إسلامية” أخرى تنزع إلى التطرف والإرهاب. المحيط والمجال الإقليمي هنا ليس دافعا للاسترخاء وتأجيل حل الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما هو دافع ومحفز لنجاح المفاوضات على الأقل من ناحيتين. الأولى أن ترك الأمور على حالها سوف يعني وجود ساحات ممتدة من التطرف والفوضى ومن ثم الجماعات الإرهابية الساعية إلى تدمير الدول والأوطان ثم الدخول في صراعات بينها بحيث ينتهي النظام الإقليمي كله إلى حالة ينتهي عندها اليقين الذي هو المقدمة الطبيعية للحرب. الثانية أن ما جرى في المنطقة، وخاصة في مصر، أثبت أن القوى المدنية فيها من العزم والقدرة ما يكفي لمقاومة هذه الاتجاه نحو الانحدار الذي سارت إليه موجات ”الربيع العربي” الأولى. وبشكل ما فإن هناك الآن جيلا يريد للمنطقة أن تعيش بطريقة مختلفة عما عاشت عليه الأجيال السابقة عليه تقوم على التنمية واللحاق بالعصر، ومثل ذلك لا يكتمل دون حل للصراع العربي الإسرائيلي الذي لم يعد يشكل المنطقة، وإنما باتت المنطقة على استعداد لتشكيل الصراع من جديد. مثل هذه الفرصة لا تستطيع أميركا فقدانها.