كان أمين عام منظمة الأممالمتحدة بان كي مون، ورئيس وزراء لبنان السابق سعد الحريري، بين أبرز صانعي الأخبار الحارة خلال الأيام القليلة الماضي. بان لغلطته الدبلوماسية الموجعة التي دفعته إلى دعوة إيران للمشاركة في مؤتمر ”جنيف2” قبل أن يضطر لسحبها، وذلك بعدما صدّق أن طهران موافقة على التخلي عن بشار الأسد.. وهي التي تخوض فعليا حرب الدفاع عنه عبر ميليشيات شيعية تأتمر بأوامرها من كل أنحاء العالم. أما الحريري فلتفجيره ”مفاجأة” موافقته على المشاركة في حكومة لبنانية جديدة تضم حزب الله بعد أكثر من تسعة أشهر من الجدل والعناد المتبادلين على خلفية انعدام الثقة.. أولا بين كتلتي 14 و8 آذار، وثانيا بين الشارعين السني والشيعي المحتقنين بفعل الأزمة السورية وانعكاساتها على الساحة اللبنانية. في موضوع ”غلطة” بان يرجح كثيرون أن وراء الأزمة ما وراءها. فمن غير المعقول أن يكون رجل يتربع على قمة الدبلوماسية في العالم بمثل هذا المستوى من السذاجة. بداية، كان توقيت الدعوة مريبا، إذ جاءت بعد موافقة ”صعبة” من المعارضة السورية، ربما ما كانت لتتأمّن لولا حرص واشنطن على طمأنتها عبر تصريحين متتاليين من وزير الخارجية جون كيري. ولقد أكد كيري في تصريحه الأول على استناد ”جنيف 2” إلى مقررات مؤتمر ”جنيف 1” القاضية بقيام هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وفي الثاني على رفض ”خداع” الأسد المجتمع الدولي ب”الإرهاب” واتهامه الأسد بأنه كان وراء دخول الجماعات الإرهابية إلى سوريا. وهنا حمل كلام كيري ردا ضمنيا على الموقف الروسي.. السائر حتى النهاية في دعم الأسد ودفع المعارضة السورية إما إلى التشرذم والانهيار أو إلى التغيب عن ”جنيف 2”. وحقا، فعل ”حزم” الوزير الأميركي المفاجئ فعله.. فصوتت غالبية ”الائتلاف الوطني السوري” مؤيدة المشاركة. من ناحية ثانية، كان يُفترض بالأمين العام، بعد سبع سنوات من توليه المنصب، أنه غدا ملمّا بأسلوب التفاوض الإيراني القائم على قول الشيء وفعل عكسه. ولذا فهو عندما تكلم مع وزير الخارجية محمد جواد ظريف صدّق تعهداته (ظريف) ووعوده، ناسيا أو متناسيا أن القرار النهائي في المسألة أكبر من ظريف، بل أكبر من رئيسه حسن روحاني. غاب عن ذهن بان، عندما وثق بتعهد ظريف، فقرر توجيه الدعوة إلى طهران ”لاقتناعه بقدرتها على لعب دور بناء” في المؤتمر، أن القرارات المصيرية من هذا النوع يتخذها المرشد الأعلى علي خامنئي. وغفل الأمين العام أن من يدفع بعشرات الألوف من المقاتلين إلى سوريا دفاعا عن حكم الأسد.. يرى له في بقاء هذا الحكم مصلحة استراتيجية كبرى. ثالثا، كان بان يدرك سلفا أن دعوته لا بد أن تنم عن وجود موافقة ضمنية من القوى الكبرى. ومع أن مثل هذه الموافقة ربما كانت موجودة، فإنه لم يحسب كما يجب رد الفعل الغاضب من عدة أطراف ليس أقلها المعارضة السورية نفسها، ولم يتصور شكل موقف طهران المتصلب الذي عبرت عنه الناطقة باسم الخارجية. كان رد فعل المعارضة السورية منطقيا، لأنها رأت في الأمر خديعة. ومن ثم، بعدما أسقط تصلب إيران أي مجال للمرونة، اضطرت كل من واشنطن وباريس ولندن للتدخل والطلب من بان ربط دعوة إيران بالتزامها العلني ب”جنيف 1”. وهكذا، اضطر بان بدوره لسحب الدعوة بعدما ألحق بسمعته وصدقيته ضررا بالغا يصعب تعويضه. على صعيد آخر، في الحالة اللبنانية المتلازمة مع الأزمة السورية، صدر عن سعد الحريري موقفان متلاحقان قد يسهلان مهمة حليفه تمام سلام في تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة. إذ تخلى عن رفضه المزمن لفكرة المشاركة في حكومة واحدة مع حزب الله، ما دام لا يزال يقاتل داخل سوريا. وجاء الموقف الأول من هولندا حيث انطلقت أعمال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. ثم أكد ذلك الموقف لاحقا خلال لقاء تلفزيوني طويل، شدد فيه على أن ”مصلحة لبنان تأتي قبل مصلحته الشخصية”، وإنه يغلّب في قراره المنطق السياسي على العاطفة الشخصية. طبعا، شكّل كلام الحريري ”زلزالا سياسيا” بعد تسعة أشهر من التجاذب المصحوب بالتفجيرات وعودة الاغتيالات التي كان أحدثها اغتيال مستشاره السياسي الدكتور محمد شطح. كذلك طرح هذا التبدل تساؤلات عدة عن مصير كتلة 14 آذار التي يشكل تيار المستقبل الذي يقوده الحريري أكبر مكوناتها الإسلامية، في ظل إصرار حزب ”القوات اللبنانية”، حليفه المسيحي الأقوى، على رفض أي ائتلاف حكومي مع حزب الله. كيف تبلورت الأمور بهذا الاتجاه؟ وهل كان هناك تسهيل أو تشجيع دولي؟ الأرجح نعم، لا سيما في ظل تحمس إعلام تيار ”المستقبل” - قبل كلام رئيسه - في الإشارة إلى ”تراجعات” قدمها حزب الله في الموضوع الحكومي. في أي حال، المبررات التي عرضها الحريري وجيهة جدا.. حتى لو لم تكن مقنعة لمن راهن على لهجة نواب ”المستقبل” العالية خلال الأشهر التسعة الأخيرة. ولكن، في المقابل، بات واضحا سقوط توهّم حزب الله بأنه قادر على ضرب خصومه من دون أن يتكبد أي خسائر موازية. بل، أكثر من هذا، سقطت تماما كل الحجج التي ساقها الحزب لقتاله في سوريا، وبالذات، حجة أنه يخوض حربا وقائية لمنع وصول الخطر ”التكفيري” إلى لبنان. فهذا الخطر وصل إلى لبنان واستقر.. إذا كان الحزب مقتنعا بأن التفجيرات التي استهدفت الضاحية الجنوبية أعمال ”تكفيريين”. إن اقتناع حزب الله بعبثية مواصلة الهروب إلى الأمام تطور مشجع يستحق التجاوب معه من خصوم الأمس. غير أن أي تثبيت للانفراج يجب أن يرتكز على قواعد إيجابية صلبة، في مقدمتها تجنب المناورات كتلك التي مارسها في ”اتفاق الدوحة”. فلن يكون هناك مجال لتفاهمات على طريق انتخابات رئاسية لا نية عند الحزب للالتزام بها. ولا جدوى من التمسك بشعار ”المقاومة” إذا كانت تعني الهيمنة.