إنَّ ضريبةَ المنصبِ غاليةٌ، إنها تأخذُ ماء الوَجْهِ والصِّحِّة والراحةَ، وقليلٌ مَنْ ينجو منْ تلك الضرائبِ التي يدفعُها يوميّاً، منْ عرقِهِ، من دمِه، منْ سمعتِه، من راحتِه، منْ عزتِه، منْ شرفِه، ومنْ كرامتِه، ”لا تسألِ الإمارةَ”، ”نعمَتِ المرضعةُ وبئست الفاطمةُ”، {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ}. قال الشاعرُ: هبِ الدنيا تصيرُ عليك عفواً .. أليس مصيرُ ذلك للزوالِ؟! قدِّرْ أنَّ الدنيا أتتْ بكل شيءٍ، فإلى أي شيء تذهبُ؟ إلى الفناءِ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. قال أحدُ الصالحين لابنه: لا تكنْ يا بُنيَّ رأساً، فإنَّ الرأس كثيرُ الأوجاعِ. والمعنى: لا تُحِبَّ التصدُّرَ دائماً والتَّرؤُّس، فإنَّ الانتقاداتِ والشتائمِ والإحراجاتِ والضرائبِ لا تصلُ إلا إلى هؤلاء المقدَّمين. إنَّ نصف الناسِ أعداءٌ لمِنْ.. ولي السلْطة هذا إنْ عدلْ فما بالك إن كان ظالماً فالوبال وخيم في الدنيا والآخرة وعاقبة الظلم في الدنيا عاقبة سوء.. أنظر أخي إلى الظالمين في كل عصر.. وفي كل مكان.. تجدهم قد اسودت عاقبتهم، ففرعون طغى وبغى على الناس فلم ينفعه سلطانه ولا جاهه وقد كان يقول للناس {أنا ربكم الأعلى} (النازعات) وكان يقول لهم:{أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} (الزخرف) فأغرقه الله في البحر، فاستغاث وصرخ، ولكن لا ينفع الذين ظلموا ملكهم ولا حاشيتهم. وقارون أخذه الله بماله:{فخسفنا به وبداره الأرض} (القصص).. وغيره وغيره. ولكن ينبغي عليك أخي أن تضع الموضوع في إطاره، لأن الله قد مدح الإمام العادل فذكره من بين السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. وهذا عليُّ بنُ المأمون العباسي - أميرٌ وابنُ خليفة - كان يسكنُ قصراً فخماً، وعندهُ الدنيا مبذولةٌ ميسَّرةٌ، فأطلَّ ذات يومٍ منْ شرفةِ القصرِ، فرأى عاملاً يكدحُ طِيلةَ النهارِ، فإذا أضحى النهارُ توضَّأ وصلَّى ركعتين على شاطئ دِجلة، فإذا اقترب الغروبُ ذهب إلى أهلِه، فدعاهُ يوماً من الأيامِ فسألهُ فأخبره أن له زوجةً وأختين وأُمّاً يكدحُ عليهنَّ، وأنه لا قوت لهُ ولا دخل إلا ما يتكسبُه من السوقِ، وأنه يصومُ كلَّ يومٍ ويُفطرُ مع الغروبِ على ما يحصلُ، قال: فهلْ تشكو منْ شيءٍ؟ قال: لا والحمدُ للهِ ربِّ العالمين. فترك القصر، وترك الإمارة، وهام على وجههِ، ووُجد ميتاً بعد سنواتٍ عديدةٍ وكان يعملُ في الخشب جهة خرسان؛ لأنهُ وجد السعادة في عملِه هذا، ولم يجدْها في القصرِ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} . يذكِّرني هذه بقصةِ أصحاب الكهفِ، الذين كانوا في القصور مع الملكِ، فوجدُوا الضيقَ، ووجدوا التشتُّتَ، ووجدوا الاضطرابَ؛ لأنَّ الكفر يسكنُ القصر، فذهبوا، وقال قائلُهم: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً}. لبيتٌ تخفقُ الأرياحُ فيهِ .. أحبُّ إليَّ مِنْ قصْرٍ منيفِ
سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ.. والمعنى: أن المحلَّ الضيَّق مع الحبِّ والإيمانِ، ومع المودَّةِ يتَّسعُ ويتحمَّلُ الكثير، ((جفانُنا لضيوفِ الدار أجفانُ)). مما يشتتُ القلب ويكدِّرُ صفاءه واستقراره وهدوءه: الحرصُ على الظهورِ والشهرةِ، وطلبِ رضا الناسِ {لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} . ولذلك قال أحدُهم بالمقابلِ: مَنْ أخمل النفس أحياها وروَّحها .. ولم يبتْ طاوياً منها على ضجرِ إنَّ الرياح إذا اشتدَّتْ عواصفُها .. فليس ترمي سوى العالي منَ الشجرِ ”منْ راءى راءى اللهُ بهِ، ومنْ سمَّع سمَّع اللهُ بهِ”، {يُرَآؤُونَ النَّاسَ}، {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ}. وقال الشاعر: ثوبُ الرياءِ يشِفُّ عمَّا تحتهُ .. فإذا التْحفْت بهِ فإنَّك عاري.