تنتهج الأنظمة التي تراودها الشكوك من نيات الدول الأخرى والرغبة في الإطاحة بها، أساليب تجد فيها الطرق الناجعة لدرء تلك المخاطر. ويأتي توسيع المحيط الأمني نموذجا لدرء تلك الهواجس. إن دراسة مفهوم المحيط الأمني وأثره على مدى بعد أو قرب التهديد، وإسقاط هذه الدراسة على دولة مثل إيران ونظامها، ربما تعلل سبب استمرار نهج النظام الإيراني لسياساته التي تأتي مغايرة في العديد من المواقف لتوجهات دول المنطقة، بل إنها تسير في بعض الأحيان مهددة لاستقرار المنطقة. بداية، يعرف المحيط الأمني بأنه الحيز أو المساحة التي في حال جرى اختراقها من قبل طرف آخر بأي وسيلة من الوسائل، يعدّ تهديدا مباشرا لأمن تلك الدولة. ويتوقف نطاق المحيط الأمني على قدرة البلد وسعة نفوذه في العالم الخارجي، فكلما كانت قدرة ونفوذ البلد ضئيلة، كان محيطه الأمني محدودا أيضا، والعكس صحيح. لقد كان للتحولات التكنولوجية واختراع الأسلحة بعيدة المدى، دور في زيادة القابلية العسكرية للدول للقيام بالهجوم ما وراء الحدود الوطنية، وبالتالي دفع دائرة التهديدات إلى أبعد نقطة خارج تلك الحدود. وتتمثل تلك الوسائل في التالي: الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، والطائرات الهجومية، والخلايا والتنظيمات السياسية أو العسكرية في الدول المجاورة، وإنشاء قواعد وتحالفات عسكرية، وإقامة نظام أمني مع دول الجوار. يلتفت صانع القرار السياسي والاستراتيجي والعسكري داخل دائرة النظام الإيراني ليجد نفسه منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، مع سقوط الشاه وظهور الجمهورية الإيرانية، محاطا بالتهديدات. فالنظام الإيراني لا يزال ينظر إلى الغرب بعين الريبة، ويرى أن الهدف المنشود للساسة هنالك هو الإطاحة بالنظام القائم في إيران. ويأتي الوجود الأميركي في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) يليها الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، ليزيد من تلك المخاوف التي لا تفتأ تظهر في تصريحات المسؤولين الإيرانيين، فمرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي في تصريحاته الأخيرة يرى أن الغرب مهتم بتغيير النظام، أكثر من إنهاء الخلاف الخاص ببرنامج بلاده النووي. هذه المخاوف دفعت بالنظام الإيراني إلى السعي الحثيث لتأمين محيطه الأمني، والسعي إلى الدفع به بعيدا عن حدود الدولة. من هذا المنطلق طالب النظام الإيراني بإقامة نظام أمني في الخليج يضم إيران مع دول الخليج العربي، وأكد أن أمن الخليج رهن بالدول المطلة عليه، وبالتالي لن يعود للوجود الأجنبي مبرر لبقائه والذي يأتي بدوره مهددا له. لا شك أن مثل هذه الفكرة التي جاءت في مقال سابق لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في صحيفة ”الشرق الأوسط”، تلقى قبولا في شكلها وإطارها العام، غير أن السير بعيدا في تفاصيلها يجعل المتتبع يتساءل كيف يمكن لهذه الفكرة أن تبصر النور في ظل الملفات العالقة بين إيران ودول الخليج العربي من قبيل قضية الجزر الإماراتية المحتلة والاستمرار في التدخل في شؤون دول الخليج، وغير ذلك من الإشكاليات التي تأتي بحق معضلة أمام مثل هذا الطرح. وبالتزامن مع هذه النداءات، فإن النظام الإيراني لم يدخر جهدا في الوقت ذاته لتوسيع محيطه الأمني عن طريق السعي للحصول على الوسائل الأخرى التي من شأنها تحقيق ذلك المبتغى، من قبيل تطوير منظومة الصواريخ بعيدة المدى والتي يصل مداها إلى قرابة ألفي كيلومتر. ويأتي ما يطلق عليه بمحور المقاومة واستمراره هدفا منشودا للنظام الإيراني لتعزيز محيطه الأمني. فبقاء الحليف الاستراتيجي المتمثل في نظام بشار الأسد، بالإضافة إلى الاستمرار في دعم حزب الله وحركة حماس والجهاد الإسلامي.. هو لا شك رادع معزز للمحيط الأمني للنظام الإيراني. ولذا يرى قائد فيلق القدس قاسم سليماني أن دعم المقاومة هو الضمان الحقيقي لمصالح إيران، وتأتي جبهة المقاومة بوصفها أحد العوامل الرئيسة التي تضمن المصالح الوطنية في الحاضر والمستقبل. هل اتضح إذن لماذا يستميت النظام الإيراني دفاعا عن الأسد؟ وهل أدركنا الآن المعنى الحقيقي لتصريح قائد سلاح الطيران في الحرس الثوري الإيراني، حين قال إن بقاء الأسد في السلطة لأن إيران أرادت ذلك؟ إن استشراف المستقبل يشير إلى أن النظام الإيراني في ظل مخاوفه وهواجسه من نيات الغرب، سيدفع لا شك إلى سعيه لتوسيع محيطه الأمني، والذي سيخلق من جانبه مزيدا من الاضطرابات في المنطقة. لا خلاف على أن إيران دولة إقليمية مؤثرة في المنطقة ولها الحق في الحفاظ على مصالحها، ولكن تبقى هناك قواعد للعلاقات الدولية لا بد من مراعاتها.. فتوسيع هذا المحيط ليأتي على حساب الدول المجاورة سيخلق معه المزيد من التوتر، وهو أمر يتنافى مع ما تقدمت به حكومة روحاني نحو تعزيز العلاقات بدول المنطقة وخاصة الخليجية منها، ويضع معه تساؤلا حول مبادرة روحاني الأخيرة لإقامة تعاون إقليمي مشترك، باعتبار أن الأمن في المنطقة هو مسؤولية جميع دولها عبر منظمة أو اتفاق. إن فكرة التعاون الإقليمي المشترك التي تقدم بها الرئيس الإيراني حسن روحاني ستلقى الترحاب من دول الخليج العربي، مثلما رحبت بتصريحات الرئيس الإيراني مع وصوله للسلطة. ولكن ما لا بد من مراعاته هو وجود أرضية مشتركة تقوم على أساس احترام خصوصيات الدول وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وأن يأتي ذلك التعاون مراعيا لجميع الدول، وألا يأتي الثقل الإقليمي لبعض دول المنطقة بالصورة التي تجعل من دور بقية دول الخليج العربي لاغيا. استمرار الخلافات والتباين لن يجدي نفعا للمنطقة، ولن يتحقق الأمن والاستقرار لدول الخليج العربي إلا بالجلوس خلف طاولات التحاور لطرح وجهات النظر، وحل الخلافات للوصول إلى المقاربات التي ستنعكس أصداؤها بشكل إيجابي على شعوب المنطقة.