ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء غني عن التذكير بأن بيت الشعر هذا المتداول بكثرة هو الوصف البليغ للعلاقة بين مَن يطلب مِن الآخر طلبات تعجيزية وهو يعرف أنه لا يستطيع الوفاء بها، ولقد راودني بيت الشعر هذا وأنا أتابع الطلبات الأميركية والإسرائيلية والحمساوية وحتى الفتحاوية من الرئيس محمود عباس وحكومته التي تسمى حتى الآن حكومة التوافق. فلنحصر باختصار طلبات كل طرف من أطراف الشركة البائسة التي تسمى عملية السلام، أو شركة الإبقاء على السلطة الفلسطينية على قيد الحياة. الإسرائيليون يريدون من عباس أن يجرد قطاع غزة من السلاح، وإلى أن يتم هذا الطلب المستحيل، فهم يريدون من عباس أن يمنع إطلاق الصواريخ من غزة وأن يوقف التحريض، واضعين في الاعتبار أن إسرائيل تعتبر استخدام مفردة الاحتلال قمة التحريض، ويطلبون منه كذلك، ولمجرد إثبات حسن النية، أن يعترف بإسرائيل دولة يهودية، حيث لم يعد اعترافه بدولة إسرائيل وفق اتفاقات أوسلو ذا قيمة. وإذا ما انتقلنا من قائمة الطلبات الإسرائيلية إلى قائمة الطلبات الأميركية، التي تبدو في ظاهر الأمور أنها أقل صعوبة واستحالة من الطلبات الإسرائيلية، إلا أنها تضع الرئيس الفلسطيني تحت طائلة رقابة لحظية؛ فمثلا حين لم تعارض الإدارة الأميركية قيام حكومة التوافق التي شكّلها الرئيس عباس، فإنها ستراقب الأداء، فالعنف في مناطق السلطة يجب أن يتوقف، وهذا هو الغلاف العلني للمطلب الأميركي الأساسي، وهو أن يربط عباس حركة حماس بقاطرته السياسية، ليتسنى للإدارة الأميركية تبرير مساندتها للحكومة الجديدة أمام الكونغرس المتحفز ضد أوباما ووزير خارجيته. وإذا ما انتقلنا إلى قائمة الطلبات الحمساوية، فإن أولها أن تتولى حكومة عباس صرف مرتبات جميع من يتقاضى راتبا شهريا من السلطتين في غزة، وكذلك ألا يقترب من المحرمات، وأولها وليس آخرها عدم المساس بقوات حماس التي هي قوات ”المقاومة”، ثم بعد ذلك مطلوب منه ومن حكومته، فتح أبواب معبر رفح على مصراعيها كاختبار عاجل لصدقية المصالحة. وإذا ما انتقلنا من قائمة مطالب حماس، إلى مطالب فتح وأخواتها من فصائل منظمة التحرير، وأولها وأهمها وقف التنسيق الأمني والذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية، واجتراح عملية إطلاق سراح للأسرى، الذين تلهب قضيتهم مشاعر الفلسطينيين وتوصل البعض منهم إلى حافة اتهام السلطة بالتقصير في أمرهم. فبوسعنا القول.. ماذا بوسع عباس ووزرائه أن يفعلوا حيال هذه الطلبات؟ وإذا كنا لا نملك منطقيا حق إلقاء اللوم على إسرائيل كونها العدو المحتل، إلا أننا نملك حق توجيه اللوم إلى الإدارة الأميركية، التي جردت الفلسطينيين من سلاحهم الفعال، أعني به ربط العودة إلى المفاوضات بتجميد الاستيطان ولو بصورة مؤقتة، فلقد أغرت الدبلوماسية الأميركية التي أطلقها قبل سنة من الآن الوزير جون كيري، الفلسطينيين بالتخلي عن شرطهم هذا على أمل أن تنجب الشهور التسعة مولودا هو السلام المعجزة، وإذا كان الفلسطينيون دائمي الشك والحذر من الفاعلية الأميركية على صعيد تحقيق السلام، فإنهم وتحت ضغوط شتى مع تقويم افتراضي للقدرة الأميركية على تحقيق وعودها، قبلوا التراجع خطوات إلى الوراء، تحت مقولة إن لم تستطع أميركا فعل شيء فمن يستطيع؟ لهذا فإنني أنظر باستغراب للطريقة الأميركية في التعامل مع عباس، ووضعه تحت الرقابة اللحظية، وقد تضعه تحت المساءلة القاسية لقاء ما يفعل وما لا يفعل، وهنا يبدو لي أن بيت الشعر الذي بدأت به هذه المقالة، نحت خصيصا لوصف العلاقة بين أميركا وعباس.