يقول ابن عطاء الله السكندري: ”لولا ظهوره في المكوَّنات، ما وقع عليها وجودُ إبصار، ولو ظهرت صفاته اضمحلّت مكَّوناته” تأمل في المكونات التي تراها عيناك، من السماء وما فيها من نجوم وأفلاك، وفي الأرض وما فيها من جبال ووهاد وأشجار ونباتات، وما قد بُثَّ فيها من سائر الحيوانات، وفي البحار وشأنها وما فيها من غرائب المخلوقات، ثم قل لي: مالذي تنطق به هذه المخلوقات كلها، وما الحديث الذي تردده على سمع كل عاقل؟ إنها تتحدث عن علم الله وحكمته ودقيق تدبيره، وباهر قدرته، فهي ألسنة شتى ناطقة بوجود الله ووحدانيته، بل إنها مرآة ساطعة لوجود الله عز وجل لا يتيه عن رؤيته فيها متبصر عاقل، وصدق من قال: تأمل في رياض الأرض وانظر إلى أثار ما صنع المليك عيون من لجين شاهدات بأن الله ليس له شرييك فماذا لو غاب وجود الذات العلية عن صفحة هذه المكوانات ومرآتها، فلم تتبين فيها آثار علمه وحكمته وتدبيره، ومظاهر قدرته؟ إذن لغابت هذه المكونات أيضاً فما رآها مبصر، ولما وقع منها على أيّ أثر، ذلك لأنها تقررت بعلم الله وتخصصت بإرادته، ثم وجدت بقدرته، فلو لم تتجلّ فيها هذه الأسرار التي بها ظهر الله في خلقه وتجّلى لعباده، إذن لغاب السبب الذي به تخصص نظامها ثم تحقق وجودها، ولبقيت عندئذ في ظلمات الغيب والعدم.. فإن قال لك قائل: ولكن ها أنا أنظر إلى المشاهد الكونية على اختلافها، فلا أجد مظهراً لأحد فيها، ولا أبصر فيها إلا ذاتها وطبيعتها، فاعلم أنه كالذي ينظر في المرآة الصافية، ثم يقول: إني لا أجد مظهراً لأحد فيها ولا أبصر فيها إلا ذاتها وطبيعتها!.. إنه يعاني من أحد شيئين: إما من عين لا يبصر بها، أو من كبر قد زجه في سجن العناد. ليس في العقلاء من يسمع كلاماً ثم لا يؤمن بوجود متكلم، أو شم عبقاً يفوح ثمَّ لا يؤمن بوجود ورد أو زهر، أو يقرأ خطاً نقش على ورق ثم لا يؤمن بوجود كاتب. فإن قال لك هذا القائل: فهلاَّ بصرتني بالله ذاته في هذا الذي تنسبه إليه من جميل صنعه/أو بصرتني بصفاته ذاتها، من العلم والحكمة أوالقدرة بدلاً من آثارها التي تزعم أنها بارزة في صنعه، فقل له: لو ظهر لك في ذاته أو في شيء من صفاته، لاضمحلّت منك كينونتك الضعيفة هذه، ولغبت عن وجودك الذي هو أثر من آثار وجوده!.. لقد قضى الله أن يكون وجوده في هذه الحياة الدنيا خفياً باطناً عن الأعين من حيث ذاته وصفاته، وأن يكون جلياً وظاهراً من حيث آثاره الدالة بالبداهة على كل من ذاته وصفاته وأنت تعلم أن من أسمائه الحسنى الظاهروالباطن. وفي القرآن الآيات التي تدل عل كلا الإسمين: اقرأ مثلا هذه الآية التي تدلك على اسمه الظاهر: ”واللهُ أنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الأَرضَ بَعْدَ موتِها إنَّ فِي ذَلِكَ لآيةٌ لِقومٍ يسمعونَ”(النحل)وانظر كيف يبرز الله لك من خلالها أثار صفاته الكثيرة من العلم والرحمة والحكمة والتدبير والقدرة..الخ. فهذه الآية وأمثالها يتجلى فيها مصداق اسمه”الظاهر”، وإنما ظهوره فيها، من حيث الآثار التي تتبدىَّ للعقول والألباب، لصفاته التي هي مضمون أسمائه الحسنى. وأما بيان القرآن لمعنى كونه باطناً وللحكمة من ذلك، فنقرؤه في سائر الآيات التي يدعو فيها عباده إلى الإيمان بالغيب، أي إلى أن يؤمنوا بوجود ذاته العلية وكل ما أخبر به مما لم يولد من غيبه بعد، على الرغم من أنه سبحانه وتعالى غائب عن أعينهم وحواسهم. يقول الإمام أبو حامد الغزالي(ت505ه): ”والله سبحانه وتعالى باطن إن طُلِبَ من إدراك الحواس وخزانة الخيال، ظاهر إن طُلِبَ من خزانة العقل بطريق الاستدلال” إن حواسك هذه أضعف من أن تصمد أمام ما هو خارج عن دائرة معايشك الصغيرة المحيطة بك، فكيف تصمد بالرؤية أو الإحساس والاستيعاب أمام مبدع الكون ومنشئه من ظلمات العدم؟ !.. لكن كيف يصح أن يتجلى الله على عباده الصالحين في الدار الآخرة، حتى أنهم ليرونه كما يرون القمر ليلة البدر، ليس دونه حجاب؟ والجواب: أن الله يخلق عباده والعالم كله يوم القيامة خلقاً آخر، وأنه عز وجل يهيئ كلاً، من حيث الخلق والإمكانات، لما قد أعدَّ له، فأما الصالحون فيخلقهم الله مجهزون بالإمكانات اللازمة لرؤيته وهي إمكانات لا تخضع لمقاييس المنطق والعلوم التي نتعامل بها ونحتكم إليها اليوم..وأما المجرمون والجاحدون فيخلقهم الله مجهزين بأجساد لا تذيبها أو تمحقها النيران بل تجدد كلما اهْتَرِأَ نسيجها أو كاد، مصداقُ ذلك قوله سبحانه وتعالى: ”كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَهاَ”(النساء) وهي الأخرى إمكانات لا تخضع لمقاييس المنطق والعلوم التي نتعامل بها ونحتكم إليها في دنيانا اليوم. المرحوم الدكتور سعيد رمضان البوطي بتصرف