يقول ابن عطاء الله السكندري: ”المؤمن إذ مدح استحيا من الله أن يُثْنى عليه بوصف لا يشهده من نفسه”. إن هذا المؤمن الذي يعنيه ابن عطاء الله، يرى الفضل في كل مكرمة يتصف به، أو طاعة يتقرب بها إلى الله، عائداً إلى من هو مصدر كل نعمة وإلى من بيده كل مكرمة، ألا وهو المنعم المتفضل جل جلاله، ولا ينسب من ذلك كله إلى نفسه إلا الشعور بثقل المنة الإلهية عليه. فإذا تلقى هذا المؤمن مدحاً من زيدٍ من الناس له، وعاد بهذا الذي مُدِحَ به إلى نفسه وواقع حاله، فهو إما أن يرى الوصف الذي مُدح به موجودًا مطابِقاً لواقع حاله، وإما أن يرى نفسه عارية عما وصفت به فقيرة إلى هذا الذي نسب إليها. ففي الحالة الأولى لابدّ أن يستبدّ به الخجل والحياء من الله تعالى، إذ مدحه المادحون بشيء تفضل الله به عليه دون أن يكون له في ذلك سعي ولا جهد ولا حول ولا قوة، فهو يرى نفسه أشبه ما يكون بفقير لا يملك شيئاً، أعطاه أحد الأغنياء مالاً وكلفه أن ينيب عنه فيقيم به وليمة يدعو إليها أمثاله من المحتاجين، فأثنوا عليه بذلك ومدحوه بالسخاء والكرم والبذل جاهلين الحقيقة. والغني الذي أعطاه المال، وكلفه بهذا الذي قام به، يسمع مدحهم له وشكرهم على بذله وإكرامه. إن مما لا ريب فيه أن مشاعر الحياء تتلبس هذا الفقير المسكين من فرقه إلى قدمه، إذ يرى نفسه ممدوحاً بما ليس له أي فضل فيه ويعلم أن الذ يستحق كل الثناء والحمد إنما هو ذلك الذي أعطاه المال وكلفه بالدعوة والإطعام. فهذا هو شأن المؤمن الصادق في إيمانه، إذ يمدحه المادحون بما يعلم أن المتفضل عليه بذلك هو الله. . هذا في الحالة الأولى. أما في الثانية، وهي أن ينظر هذا الممدوح فيجد أن واقع حاله وخفيّ أمره على نقيض ما يظنه المادحون، فلابدّ أن يكون حياؤه من الله أشد. إذ هو يعلم أنه مبتلًّى بنقيض ما يمدحهونه به، ولكن الله تفضل عليه فستر عن الناس هذا الذي ابتلي به، فغابت عنهم حقيقة أمره، وخفيت عنهم نقائصه وعيوبه، فم يجدوا في ظاهر حاله إلا نقيض تلك النقائص والعيوب التي يعاني منها، فكيف لا يشهد حياؤه من الله تعالى إذ يمدحه الناس وقد كان الأحرى به أن يُذّم، وهو يعلم أن الله يراقبه ويعلم خفايا أمره وحقيقة حاله؟ إذن فالمؤمن الحق يرى في الحالتين أنه ليس أهلا للمدح والثناء، إذ إن الفضائل التي يمدح لسببها إما أن تكون مفقودة في الحقيقة، وإنما ستر الله سوء حاله عن الناس فأثنوا عليه لما حسبوا أنه موجود فيه، وإما أن تكون موجودة ولكن المتفضل عليه بها إنما هو الله عز وجل، فليس في تمتعه بها جهد ولا حول ولا قوة، فهو في كلا الحالين يشعر بالخجل والحياء من الله عز وجل. أما الذي يمدحه الناس فيزهى بمدحهم له، فهو غير مؤمن بالله حق الإيمان، إذ لو آمن به لعلم أن المتفضل عليه في كل شيء هو الله، وأن لا حول ولا قوة إلاَّ به، ولعلم أن الناس إن كانوا محجوبين عن معرفة حقيقة حاله وخفايا أمره، فإن الله يرى خفاياه هذه، وصدق الله القائل: ”وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلا يَعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهَوَ اللَّطِيفُ الْحَبِيرُ”(الملك)ففيم يُزهَى إذن بشيء إن وجد ليس هو مالكه، وإن فقد فهو ليس أهلاً لما مدح من أجله، غير أن غيابه عن معرفة الله ومراقبته، يغريه بتصديق ما يقال عنه، ويحمله على التشبع بما ليس فيه، وأنى له-وهو تائه عن مراقبة الله له-أن يتوجس خيفة من أيحيق به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”المتشبع بما ليس فيه، كلابس ثوبي زور”(متفق عليه) وحسبنا هذا في شرح هذه الكمة، إذ هي من ذيول أو تتمة الحكمة التي قبلها. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي