لأول مرة في تاريخه، يمنع مركز بومبيدو الثقافي في باريس المراهقين الذين لم يبلغوا سن الرشد من دخول إحدى صالات معرض شامل لفنان من هذا العصر. إنه الأميركي جيف كونز. والصالة المقصودة تحتوي على صور له مع زوجته السابقة تشيشيلينا، نجمة الأفلام الإباحية في إيطاليا. لكن الصحافة الفرنسية لم تتوقف عند هذا المنع بل طرحت السؤال الأكبر: ”هل جيف كونز فنان أم محتال؟”. يود المتفرج أن يقول إنه محتال ودجال ومشعوذ وسمسار يتخذ من الفن، ومن هزال ذائقة النقاد، وسيلة لجمع الأموال الطائلة. لكن الرجل لم يأتِ من فراغ، بل من دراسة أولية للفن تلتها سنوات من المضاربات في بورصة نيويورك. ثم عاد وهجر عمله في سوق الأسهم وسعى لأن يكون الفنان المعبر عن تجليات هذا الزمان. هل يمكن لنحات يعيش في القرن الحادي والعشرين أن يتناول الإزميل ويضرب الرخام لينحت آلهة الجمال ”فينوس” كما فعل آنتيوش في زمن الإغريق، قبل الميلاد؟ وبهذا المعنى، ينصحنا أنصار كونز من تجار الأعمال الفنية بأن ننظر إلى أعماله على أنها الابنة الشرعية لمجتمع الاستهلاك والإلكترون والاستعداد للسياحة في المريخ. مع هذا، يثير المعرض المقام له في باريس حفيظة عدد من المهتمين بالشأن الثقافي. ويمكن أن نسمي هؤلاء ”حرّاس العراقة”. وهم لا يستسيغون الاحتفاء بكونز في أشهر متحف وطني للفن الحديث رغم أنه الفنان الأغلى في العالم. لماذا كل هذه الطنة والرنة حول منحوتات تبدو وكأنها مجموعة من لعب الأطفال الملونة المعروضة في واجهات المخازن بمناسبة عيد الميلاد؟ حتى الأميركيون، لم يستقبلوا معارض مواطنهم جيف كونز بالترحاب، في بداياته. لقد اقتحم المعترضون القاعة في حي مانهاتن واستخدموا بخاخات الأصباغ لتشويه منحوتاته. وقد تكون خبرته السابقة في التسويق أوحت له باستئجار هؤلاء المحتجين لكي يثيروا ضجة تكتب عنها الصحافة وتسهم في الترويج للمعرض. مع هذا، فإن النجاح التجاري السريع والفاقع لم يتوقف عن تحريك مشاعر الحسد والعدوانية ضد كونز. إنه فنان مستفز. لقد صنع كلبا بسيطا من عجائن حديثة براقة، كأنه بالونة منفوخة، وبيع الكلب في المزاد العلني بأكثر من خمسين مليون دولار. والأدهى أنه صنع من هذه ”التحفة” خمس نسخ، وعليكم أن تحسبوا الحصيلة مضروبة في خمسة، اقتنى واحدة منها رجل أعمال فرنسي. وبناء عليه، تحركت ”الحمية القومية” ضد هلوسات الفنان الآتي من العالم الجديد وثقافة الوجبات السريعة. ولم يعد النقاد يتحدثون عن فنان ”يبدع” بل عن مقاول ”يصنع”؛ ذلك أن جيف كونز يملك ورشة يشتغل فيها مائة عامل، بينهم السباك والصباغ والنقاش والمصور ونافخ الزجاج وخبير الكومبيوتر. وهم يساعدونه في فبركة منحوتاته من الجبس والبلور والبلاستيك والمعادن غير القابلة للصدأ. كم تبدو المواد التي يستخدمها منسجمة مع الهيكل الحداثي لمركز بومبيدو والمشيد من الزجاج والحديد! البساطة لا تكمن في الأشكال فحسب، بل في الموضوعات. كلاب وأرانب لماعة وقلوب قانية وزنابق متعددة الألوان وفواكه بحرية كبيرة الحجم ومنحوتات زجاجية لمايكل جاكسون وألفيس بريسلي ولشخصيات أفلام الكارتون. شيء لا يشبه شيئا، ومفردات لا يجمعها أسلوب. تقف على منصات أو تتدلى من السقوف أو تنبطح على أرض الصالة تاركة الجمهور يدور حولها وهو مبهور بسذاجتها (أو سذاجته!). فسواء كان هذا الأميركي عبقريا أو دجالا، فقد سمح لنفسه بأن يرفع شعار ”الفن الشعبي من أجل الشعب”. وهو طبعا يتكلم بصدر منفوخ، ما دام هناك من يدفع الملايين مقابل ألاعيبه وابتكاراته. وقد سبق له أن تحمل أشكال الشتائم باللغة الفرنسية، قبل سنوات، حين قرر مدير قصر ”فيرساي” عرض نماذج من أعماله في المبنى الذي كان مقرا للملوك وحاضنة لكبار رسامي عصر النهضة. هل يجوز الترحيب بكلب كونز المنفوخ في قاعة المرايا، بين الجدران التي تحمل لوحات الكلاسيكيين، وقرب الأثاث الباذخ الذي تمددت عليه الأميرات والمحظيات؟ وفي النهاية تغلب عشاق الحداثة على التقليديين. إن من يستمع إليه وهو يتحدث عن السلام والقيم الإنسانية يتصوره من أتباع ”الدالاي لاما”. أما هو فيضع الفنان الإسباني سلفادور دالي مثلا أعلى له. استفزاز متشابه وموهبة مختلفة. فحين كان جيف كونز طالبا يدرس الفنون الجميلة في جامعة بالتيمور سمع بوجود دالي في نيويورك، وبحث عن هاتف فندقه واتصل به لمجرد أن يسمع صوته. لكن الفنان الشهير بشاربه المعقوف دعا الطالب الصغير لزيارته وقضاء يوم معه. حكاية حقيقية أم دعايات؟ الأكيد هو ما كتبه ناقد يقارن بين كونز وبول غوغان، أحد أشهر الرسامين الانطباعيين في فرنسا. لقد عمل الاثنان في تجارة الأسهم، قبل احتراف الفن. ثم مات غوغان معدما وخلّف وراءه بصمة خالدة في تاريخ الفن، بينما ربح كونز الملايين ولا أحد يعرف أي أثر سيترك.