يتيح معرض الفنان سلفادور دالي لجمهور الفن التشكيلي بالعاصمة الفرنسية باريس التمتع بإبداعات التشكيلي الإسباني الشهير، ومن المتوقع أن يتجاوز الإقبال على المعرض نظيره عام 1979 حين توافد نحو 900 ألف زائر ليتأملوا لوحات أحد أعلام المدرسة السريالية التي يختلط فيها الجنون بالعبقرية. ويصنع دالي الحدث مجددا باعتباره مبدعا شغل الأوساط الفنية لعقود بإبداعه المشرع على تجارب انفرد بها دون سواه، رغم تأثره في بدايته بمواطنه بابلو بيكاسو وأفكاره و"هلوساته" التنظيرية العلمية والسيكولوجية، مما جعل معظم النقاد يجمعون على "جنونه" الإبداعي القائم على نرجسية دفعت به إلى الاعتقاد بأنه أكبر عباقرة الفن الحديث في القرن الماضي. وعرف دالي أيضا بشواربه المعقوفة إلى الأعلى والمثيرة للنفور والإعجاب، فضلا عن حبه للاستعراض إذ وصفه بعض الصحفيين "بالبهلواني المتفاخر والرديء"، في حين اعتبر آخرون الأمر متوالفا مع إبداعه غير العادي، ووسيلة لشد انتباه المتلقي وتوسيع رقعة تأثيره. وحتى يرتفع المسؤولون عن المعرض إلى مستوى الحدث الذي تفرضه شخصية تاريخية وإبداعية مثل دالي "كان لا بد من ضمان كل شروط المعرض الشامل والقادر على الإلمام بكافة تجارب مراحل ونزعات ومزاج الفنان"، على حد قول جان هوبير مارتان المشرف العام على المعرض. ولم يكن من السهل القيام بذلك لولا تكاتف عدد من الجهات الساهرة على إرث الفنان الإسباني، مثل مركز دراسات سلفادور دالي والمتحف الوطني للفن الحديث ومتحف الفن الحديث لنيويورك (موما) والمتحف الوطني للملكة صوفيا بمدريد ومؤسسة غالا دالي (غالا زوجة دالي) ومتحف سلفادور دالي بفلوريدا، وهو ما جعل المعرض يضم أكثر من 200 لوحة تغطي كافة مراحل تجربته الإبداعية من العشرينيات وحتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. وفي المعرض تم انتهاج مقاربة بيداغوجية قامت على إبراز الخصوصية الإبداعية لدالي بكافة أوجهها التاريخية في علاقتها بمميزات وأفكار كل مرحلة، دون إغفال الجوانب الشخصية والذاتية والسياسية والفكرية والحضور التلفزيوني لفنان تشكيلي تجاوز صيته الساحة الفنية الخالصة ووظف الصورة بمهارة "للترويج لعبقريته". الجمهور المتنوع اكتظت به قاعة الطابق السادس بمركب الرئيس الراحل جورج بومبيدو، المطلة على أشهر المعالم السياحية عند افتتاح المعرض، وينبغي الانتظار للاطلاع على لوحات فنية سريالية غارقة في الغموض ولوحات علمية ونفسية متعلقة بعالم الأحلام والجنس والروحانية والتقنية والرياضيات والدين والطفولة والطبيعة والسياسة والحرب والهذيان، وإلى غير ذلك من العوالم اللصيقة بشخصية دالي غير العادية، كما يردد الكثير من الزوار. وفي المعرض حضرت لوحات مثل "سر غيوم تال" (1933) التي تصور قائد الثورة البلشفية في روسيا "لينين" كطاغية و"الكلب الأندلسي" و"الرجل غير المرئي" (1929) و"الحرب الأهلية الإسبانية (1936) و"سر هتلر" و"ولادة الرجل الجديد" و"أورانيوم ونووي مثالي حزين" و"الطفل الجيوسياسي" (1945) و"الحصان السعيد" (1980)، وكلها لوحات تخاطب العقل قبل العين، مثلها مثل لوحة "الساعات الرخوة" أو "استمرار الذاكرة" (1931)، التي استلهم فيها دالي منهج التحليل النفسي. سلفادور دالي الذي ولد عام 1904 في مدينة فيغراس بمقاطعة كتالونيا الإسبانية وتوفي عام 1989عن 85 عاما، قُدِّم في المعرض -الذي يتواصل حتى مارس/آذار المقبل- كصديق للكاتب غارسيا لوركا والجماعة السريالية قبل تدهورعلاقته مع الشاعر أندريه بروتون، وكمتأثر بكل من جاك لاكان وسيغموند فرويد وألبرت آينشتاين وألفريد هتشكوك وميشال أنج، كما قدم أيضا كمحاضر مبدع، مدهش ومضحك أيضا.