أربعون عاما من اختطاف المشهد السياسي اليمني يعني أن نظام صالح لا يمثل شخصه ولا الدائرة القريبة منه، أو المصالح المتقاطعة معه من قبل المكونات السياسية، وأهمها: الإصلاح، والحوثيون، و”القاعدة”، والقبائل، ثم بقية الفسيفساء الحزبية المتناثرة من الاشتراكي إلى الناصري إلى الوحدوي، بل يعني أن ثمة بنية سياسية معقدة جدا تم بناؤها بشكل تراتبي على طريقة حزب البعث والجيوش المرتبطة بالولاء للحزب والنظام وليس للوطن. بالأمس تكشف لنا “التلغراف” البريطانية، وعبر محررها للشرق الأوسط، ريتشارد سبنسر، عن مفاجأة جديدة؛ فبعد سنوات من اعتقاد الأميركان أن حرب “القاعدة” في اليمن لا يمكن أن تؤتي أكلها من دون استثمار قوة وقيمة نظام صالح على الأرض، ولو كان لا يحكم، نكتشف، عبر تقرير للأمم المتحدة، أن المخلوع عقد صفقة مع تنظيم القاعدة، مفادها تسليم الجنوب بالكامل لهم في سبيل استخدامهم لإفشال الحكومة الربيعية التي كان صالح يدرك أنها موجة عابرة، لذلك تمسك بالبقاء. المخلوع مكّن الأميركان من استخدام قواعده الجوية لطائرات بلا طيار، بهدف ضرب “القاعدة”، وبالتالي هطلت الأموال والمساعدات وبرامج التدريب وإمدادات الأسلحة، بحيث أصبح هناك يمنان، أحدهما شكلاني يعبر عن حكومة ضعيفة بقيادة هادي المنشق عن حزب المؤتمر ورفيق صالح الذي كسر الطوق بحثا عن يمن مختلف وجديد، والآخر يمن في قبضة صالح يعبث به كما يشاء، يتحالف مع مكوناته السياسية برشاقة كبيرة تحت الأضواء، يخرج في المسيرات كزعيم مترجل، وليس كزعيم مافيا سياسية ملاحق بملفات وأموال طائلة بسبب رغبة الغرب الجارفة في استغلال نفوذه للحرب ضد “القاعدة”. حركة الحوثي لم يكن لها أن تكون شيئا مذكورا رغم كل ما يقال، لولا تمكين صالح لها كما مكّن “القاعدة” من قبل، وقبلها حزب الإصلاح، في مشروع التصدي للانفصاليين الذي حوّله مكر صالح إلى جهاد مقدس، وكانت نتائجه توحيدا ظاهريا لليمن، لكن جوهره على الأرض كان إعادة بناء البنية السياسية للجنوب ليصبح تابعا لنظام صالح، وبالتالي إفقار الإقليم من أي حراك سياسي، من شأنه المنافسة أو مزاحمة حزب المؤتمر المهيمن على الحياة السياسية في اليمن رغم رداءة مخرجاته. “عاصفة الحزم” العصا السعودية التي جاءت بعد عقود من الجزرة التي كان يلتهمها نظام صالح ويرمي فتاتها للشعب، كما هو الحال مع المساعدات الدولية، مستغلا الوفرة المالية آنذاك في بناء صفقات هائلة مع زعماء القبائل والقوى الإقليمية وتنظيم القاعدة، وحتى شخصيات فاعلة على الأرض تابعة لتنظيم القاعدة، وأبرزها (بحسب تقرير الخبراء) سامي ديان مهندس العلاقة بين “القاعدة” وصالح، حيث أصر الأخير على الإفراج عنه رغم اتهامه باغتيال اللواء القطن، واختطاف السفير السعودي، وجرائم أخرى رغم عدم تجاوزه 23 عاما من عمره! خطة صالح كانت تقضي بانسحاب الجيش من محافظة أبين ذات المساحات الشاسعة، وتركها ل”القاعدة” التي كانت بصدد إعلان الجنوب إقليما لها على طريقة “داعش”، وبإزاء هذا الخراب سعى صالح بذكاء ومكر إلى تهريب ما يزيد عن 60 مليار دولار، بحسب التقرير، تحت أسماء وهمية ونشاطات مختلفة، ومن هنا يمكن فهم الخطاب الأخير للمخلوع، الذي، وإن بدا انهزاميا، إلا أنه أراد أن يبقي على الحجر الأخير في مسلسل تجريف البنية السياسية التي بناها عبر عقود، بحيث يصبح اليمن خرابا بلا مؤسسات ولا جيش ولا ولاءات قوية، وبالتالي تستحيل الحالة اليمنية إلى ما هو أسوأ من النماذج الثلاثة التي قرأها صالح بعناية: العراق، سوريا، وليبيا. في حين أن نفوذ صالح داخل اليمن يفوق حزبي البعث وسطوة القذافي. خلاصة القول إن إعادة إعمار اليمن المرتقبة، التي قد تحيله إلى دولة من أكثر الدول نموا وازدهارا بحكم الموارد والموقع الجغرافي، وما يمكن أن تقدمه دول الخليج لإعادة تأهيل هذا البلد المختطف لعقود، تعني ضرورة الانتباه إلى البنية السياسية لصالح باعتباره جوهرا لأعراض مرضية مزمنة ك”القاعدة” وأنصار الله اللذين يتشابهان في التكوين، لكن يختلفان في النتائج، وتلك قصّة أخرى، إذا ما علمنا أن تثوير التيارات السنية والزيدية المعتدلة جاء عبر شخصيات استلهمت تجربة الإسلام السياسي. ومن يقرأ مذكرات حسين الحوثي ومدى تأثره ب”معالم في الطريق” لن يشده من حجم التغيير الذي طال المنطقة منذ انهيارات الأنظمة العربية وصعود الأصولية.