هناك ثنائيات في العلاقات العربية - العربية، خصوصاً بين ”دول الجوار” فمصر توأم للسودان، وسورية توأم للبنان وهناك خصوصية في العلاقات العراقية الكويتية وأيضاً في الجوار السعودي اليمني، وقس على ذلك العلاقات الوثيقة بين باقي الدول العربية المتجاورة، ولكن تضرب العلاقات المصرية السودانية بجذورها في أعماق التاريخ إذ يربط بين الدولتين تاريخ مشترك، وتداخل إنساني وثقافي عززته مياه النيل. كما تعرض البلدان لضغوط متشابهة من القوى الغربية حتى أضحى تعبير ”وادي النيل” مرتبطاً بعلاقات القاهرة مع الخرطوم، وهو التعبير الذي أصبح شعاراً ناضل من أجله المصريون والسودانيون عقوداً طويلة، وعندما امتدت فتوحات محمد علي وأبنائه لتصل إلى سواحل شرق أفريقيا وتحتوي نهر النيل من المنبع إلى المصب، فإن البلدين دخلا في بوتقة واحدة تحت رعاية ”العرش العلوي” وظلت مسألة السودان بنداً دائماً في أجندة المفاوضات بين مصر وبريطانيا، كما ظلت مصر امتداداً طبيعياً لجنوب الوادي تعيش قضاياه وتتفاعل مع أحداثه، ويكفي أن نتذكر هنا أن الإمام المهدي الكبير كان يفكر في مقايضة تبدأ باحتجاز القائد البريطاني في الخرطوم غوردون باشا وإطلاق سراحه فقط مقابل إعادة أحمد عرابي من منفاه في سرنديب (سريلانكا) إلى وطنه مصر، تلك الروح التي تجمع البلدين وتربط الشعبين اللذين كانا يعيشان في وطن واحد، ثم مر على العلاقات بين القاهرةوالخرطوم حين من الدهر تأرجحت فيه صعوداً وهبوطاً وفقاً لأهواء الحكام وطبيعة التدخلات الأجنبية والضغوط الخارجية، وبرغم العلاقات الوثيقة بين البلدين التوأمين، إلا أنها بلغت حداً من التراجع في مراحل معينة لأسباب اختلفت ما بين مرحلة وأخرى ولعلنا نرصد هنا الملاحظات الآتية: أولاً: لقد تأثرت العلاقات الوثيقة بين مصر والسودان بالأحداث الكبرى في كل منهما، وانعكاس ذلك مباشرة على الدولة الأخرى، فقد تحدث المؤرخون عن حملات محمد علي جنوباً وموت أحد أبنائه حرقاً في إحدى الحملات العسكرية، ثم فتح الجيش المصري للسودان وبداية العلاقة الشديدة الحساسية والبالغة التعقيد بين البلدين بفعل طرف ثالث هو الإنكليز ودورهم في تخريب جوهر العلاقة بين الشعبين وخلق تناقض في الإحساس الوطني بين كل منهما، عندما كانت سياسة ”فرق تسد” هي الشعار الذي تؤمن به سلطات الاحتلال البريطاني لإحكام قبضتها على الدولتين كما غرس الإنكليز بمعونة ضعاف النفوس من المصريين شعوراً عاماً لدى السودانيين ب ”الدونية” وتلك محاولة خبيثة وفاشلة لأن الشعب السوداني تاريخياً من أكثر شعوب المنطقة ثقافة وفكراً، وهو أيضاً شعب العلماء والشعراء والأدباء، إلا أن قوى الاحتلال مارست دوراً تاريخياً في توسيع شقة الخلاف بين البلدين حتى جرى في النهاية صنع عقدة نفسية مركبة بين الشعبين التوأمين على مر العقود، وقد ظل البلدان يعيشان في ظل تاج أسرة محمد علي إلى أن قامت ثورة يوليو 1952، حيث كان قائدها الأول اللواء محمد نجيب شخصية مقبولة لدى السودانيين. إلا أن الصدام بينه وبين عبدالناصر وما جرى في عام 1954 من صراع على السلطة أدّيا مباشرة إلى إحياء شعور يقيني لدى السودانيين بأن ”شمال الوادي” سوف يمضي في طريق مختلف، لذلك تحول زعيم الحزب الاتحادي إسماعيل الأزهري ورفاقه وفقاً لشعور سوداني عام نحو خيار الاستقلال الذي جرى إعلانه في أول يوم من عام 1956. ثانياً: مرت العلاقات بين القاهرةوالخرطوم بمنعطفات صعبة في فترات حكم عبدالله خليل، والفريق إبراهيم عبود وفترة الحكم الديموقراطي إلى أن قامت ثورة ايار (مايو) بقيادة جعفر نميري الذي جرت الإطاحة به خلال حركة قوية من المجتمع المدني بقيادة النقابات السودانية، فلقد أضاف السودانيون إلى قاموس العلوم السياسية تجربتين عمليتين لمفهوم العصيان المدني أسقطت أولاهما حكم الفريق عبود في 21 تشرين الأول (اكتوبر) 1964، بينما تكفلت الثانية بالإطاحة بالنميري وهو خارج البلاد عام 1985، حيث عاش في القاهرة سنوات عدة حتى عاد إلى وطنه، ومضى إلى رحاب ربه، ولقد أتاحت لي سنوات عملي في مؤسسة الرئاسة المصرية، أن أكون همزة وصل بين الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك والرئيس السوداني الراحل جعفر نميري الذي كان يحكي لي ساعات طويلة عن تاريخه وشؤونه وشجونه، وأتذكر أن الرجل قد بكى عندما تطرق الحديث إلى دوره في تهجير يهود الفلاشا إلى إسرائيل، مؤكداً أنه جرت خديعته ولم تكن المسألة من وجهة نظره كما ردد الكثيرون مقابل رشوة مادية حصل عليها ولكن الأمر كان أكثر تعقيداً، وحكى لي الرجل في لحظات ضعف مأساة رحيل والديه يوم تخرجه من الكلية الحربية في الخرطوم والتوتر الدائم في العلاقة، أثناء حكمه، مع القطب السوداني الكبير الصادق المهدي، ولقد لفتت نظري صفة رائعة في السودانيين، لم أر لها نظيراً لدى غيرهم، ففي الوقت الذي كانت تطالب فيه حكومة الخرطوم بإعادة جعفر نميرى من القاهرة لمحاكمته، جاء المدعي العام السوداني إلى القاهرة ليطرح الدفوع القانونية التي تقضي باستعادة جعفر نميري إلى السودان والتوقف عن منحه حق اللجوء السياسي في القاهرة رغم أنه تقليد سياسي معروف في مصر، وفي ظل تلك الأجواء الساخنة بين البلدين كنت كلما ذهبت إلى الرئيس الأسبق جعفر نميري وجدت لديه دائماً المستشار الإعلامي في السفارة السودانية في القاهرة وعدداً من أعضاء السفارة، حتى إن السفير السوداني في القاهرة كان يتردد على رئيسه السابق زائراً بين حين وآخر من دون حساسيات أو عقد، ولقد ذكرني ذلك بما قاله لي الزعيم الشيوعي السوداني إبراهيم النقد من دعوته لحضور حفل سنوي في المدرسة الثانوية التي تخرج منها هو والرئيس نميري وكيف أنه حضر الحفل وجلس مع الرئيس في وقت كان هو مطلوباً للقبض عليه باعتباره معادياً لثورة مايو وتحول اتجاهها نحو البطش بالشيوعيين، حتى جاء إليه على المائدة مسؤول البروتوكول ليهمس في أذنه بضرورة مغادرة الحفل قبل نهايته بربع ساعة حتى يختفي من جديد بعد أن أمضى على مائدة الرئيس ساعتين في حديث ودي عن ذكريات الدراسة وتطورات الحكم في السودان، ذلك هو الشعب السوداني الذي لم يعرفه كثير من المصريين! ثالثاً: لم يتنبه كثيرون من حكام مصر إلى السيكولوجية الجماعية للشعب السوداني الذي أعادت جماهيره المحتشدة في شوارع الخرطوم الثقة في الرئيس عبدالناصر بعد هزيمة 1967، عندما حضر القمة العربية الطارئة وسانده فيها أشقاؤه العرب بقيادة الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز وجرى توجيه الدعم المالي العربي لمصر في مواجهة ظروف الحرب وتماشياً مع الشعار الذي طرحه عبدالناصر (ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة). لقد حدث ذلك في وقت كانت فيه الخرطوم تستضيف طلاب الكلية الحربية المصرية تأميناً لهم وحرصاً عليهم في الشهور الأولى التالية لوقوع نكسة حزيران (يونيو) 1967. رابعاً: عندما قامت ”ثورة الإنقاذ” عام 1989، رحبت بها مصر ترحيباً كبيراً وكرس الرئيس الأسبق حسني مبارك كل وقته في توفير احتياجات الثوار الجدد من نفط ومتطلبات أخرى ضرورية بالرغم من تحذيرات وجهها بعض الرموز السياسية والديبلوماسية العارفين بالشأن السوداني، من أن تلك الثورة تضم مجموعة من غلاة الإسلاميين مع عناصر أخرى تراكمت لديها عبر التاريخ حساسيات شديدة تجاه القاهرة وسياساتها، ولقد تجلى الأمر بوضوح في أول اختبار عملي للسياسة الخارجية السودانية بعد ”ثورة الإنقاذ” أثناء انعقاد قمة القاهرة في 10 آب (اغسطس) 1990، وظهر الخلاف جلياً في السياسة الخارجية للبلدين والتباين في وجهات النظر تجاه بعض المواقف القومية ثم تصاعدت حدة الخلاف بعدما أصبح القطب الإسلامي حسن الترابي شريكاً في الحكم وبعد خروجه أيضاً إثر خلافه مع الرئيس عمر البشير. خامساً: تأرجحت العلاقات بين القاهرةوالخرطوم ومرت بمحطات سلبية منها توجهات الجبهة الإسلامية الحاكمة تجاه سياسات مصر داخلياً ودولياً وعربياً وتحفظها الصامت على كثير من مواقف القاهرة بل واتخاذ مواقف سلبية تجاه مطالب القاهرة حول سد النهضة الإثيوبي، فضلاً عن إثارة ملف حلايب وشلاتين وهي المنطقة الحدودية المتنازع عليها بين البلدين لكي تظل شوكة في جانب العلاقة بين القاهرةوالخرطوم، وفي ظني أن العلاقات بين البلدين التوأمين تحمل ميراثاً كبيراً من تراكم الحساسيات، وما يجري على السطح في الظاهر ليس بالضرورة التعبير الحقيقي عن الرصيد القائم لدى كل طرف تجاه الآخر، وأنا ككاتب مصري أملك من أدوات الموضوعية والحياد ما يجعلني ألقي باللوم على الطرفين معاً، ولا تحكمني إطلاقاً عقدة شخصية نتيجة اعتراض حكومة الرئيس عمر البشير على ترشيحي لمنصب أمين عام جامعة الدول العربية عام 2011، ولم يمنعني ذلك في وقته من مواجهة الهجمة الشرسة للمحكمة الجنائية الدولية على شخص البشير وهو على قمة السلطة في دولة عربية أفريقية لها أهمية لا يجادل فيها أحد. تلك قراءة موضوعية من خلال رؤية تحرص على السودان ومصر معاً وتؤمن بأن ما صنعته الجغرافيا لا يغيره التاريخ، فهي علاقة أزلية يحملها تدفق مياه النيل عبر العصور وهو تدفق لن يتوقف أبداً!