هذه هي بالضبط حالة الرعب التي أراد إرهابيو ”داعش” أن ينشروها في أوروبا، وقد نجحوا. لم تنتهِ تفجيرات باريس عند حدود المئة وثلاثين قتيلاً الذين سقطوا ضحايا ذلك الإرهاب قبل عشرة أيام. إنها مستمرة وتتردد ذيولها من خلال الإجراءات الأمنية المشددة التي قررت الحكومات الأوروبية، وخصوصاً في فرنسا وبلجيكا، اتخاذها تحسباً لهجمات أخرى، ولحماية مواطنيها، ولكن أيضاً للتجاوب مع قلق هؤلاء المواطنين وخوفهم، ولنشر شعور من الطمأنينة بأن زمام الأمن ممسوك بحزم، وأن تلك الحكومات ستبقى أقوى من تنظيمات الإرهاب. حالة الخوف وشعور الأوروبيين بغياب الأمن في شوارع مدنهم، هما هدفان من أهداف الإرهاب، يفوقان ربما عدد القتلى الذين يذهبون ضحية التفجيرات. وبهذا نجح الإرهابيون من دون شك. يكفي المرور في شوارع باريس المقفرة للدلالة على ذلك. هذه المدينة المصنوعة للحياة وللفرح وللجمال هي اليوم مدينة أشباح، أهلها لا يخرجون من بيوتهم إلا في حالات الضرورة القصوى. معالمها السياحية فارغة، وما هو مفتوح منها، مثل متحف اللوفر أو برج ايفل، تحول إلى ما يشبه الثكنة العسكرية بسبب كثافة الإجراءات الأمنية. مدينة أخرى هي بروكسيل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، مغلقة، وسائل النقل العام فيها متوقفة، خوفاً من احتمال عملية إرهابية شبيهة بتفجيرات باريس. أما في مطارات المدن الأوروبية ومحطات القطارات، فقد صار منظر عناصر الشرطة بكامل أسلحتهم منظراً معتاداً، بعدما كان استثنائياً ونادراً لسنوات خلت. غير أن حالة الرعب ليست هدف الإرهابيين الوحيد. أعمالهم الوحشية تقصد أيضاً توجيه رسالة إلى الجاليات المسلمة التي تعيش في أوروبا، والتي تعتقد منشورات ”داعش” وأمثاله أن معظم أبناء هذه الجاليات يعيشون في ما يسميه التنظيم ”المنطقة الرمادية”، حائرين بين الانتماء إلى التطرف الراديكالي وما يستتبعه من أعمال عنف، وبين العيش في بلدان غربية لا يشعرون بانتمائهم الكامل لها، رغم أنهم يحملون جنسياتها ويستفيدون مما تقدمه لهم من ضمانات وتأمينات صحية وتعليمية واجتماعية، أسوة بالمواطنين الآخرين. إرهاب ”داعش” ومن قبله ”القاعدة” كان وما زال يهدف إلى حض أبناء الجاليات المسلمة على الخروج من ”المنطقة الرمادية” وسلوك طريق التطرف، محذراً إياهم من خيار المواطنة والاندماج، لأنه (أي ”داعش”) يعتبره خياراً غير واقعي أو متاحٍ، بسبب ما يراه من عنصرية الغرب وتحامل قوانينه على المسلمين بسبب انتمائهم الديني. من هنا اختيار الإرهابيين أشخاصاً يحملون الجنسيات الأوروبية لارتكاب جرائمهم. والهدف هو تقديم هؤلاء باعتبارهم المثال والنموذج الذي يفترض بالجاليات المسلمة أن تتبعه! هنا من المفترض أن تلعب الحكومات والمجتمعات الغربية دورها المتعقل والإيجابي، كي لا تكون شريكاً في اللعبة، أو لنقل في الفخ الذي ينصبه الإرهابيون لأبناء الجاليات المسلمة. فخيار المواطنة والعيش السوي في الغرب، كما سائر المواطنين، من الصعب أن يتحقق إلا إذا قامت الحكومات الغربية بدورها في عدم معاملة تلك الجاليات وكأنها شريكة أو مسؤولة أو متهمة. سوف يحتاج القادة الأوروبيون إلى استخدام قدر كبير من التعقل في هذه الظروف الصعبة. من السهل، ومن المبرّر، أن يطغى الهاجس الأمني الآن على العقل الأوروبي. لكن يجب أن نتذكر أن هذه الإجراءات لا يمكن أن تبقى قائمة ومفروضة إلى ما لا نهاية، لأن ذلك إذا حصل، سيغير صورة المجتمعات الأوروبية وطبيعة الحياة فيها، تغييراً لا عودة عنه. هذه مجتمعات معتادة على الحياة الطبيعية وعلى التنقل من دون عوائق وعلى حرية التعبير والتفكير، وليس من قبيل الصدف أن يكون الإرهاب قد اختار العاصمة الفرنسية هدفاً، وهي التي ترمز أكثر من أي عاصمة غربية إلى تلك الحريات. إنه عامل الحسد والحقد في الوقت ذاته الذي جعل باريس ذلك الخيار المفضل. أوروبا معرضة لخسارة الكثير مما يميزها، حتى بالمقارنة مع المجتمعات الغربية الأخرى. إقفال الحدود في وجه اللاجئين. إعادة فرض الحدود الداخلية في الاتحاد الأوروبي. تسهيل إجراءات الطرد أو سحب الجنسية. كل هذا سوف يؤدي بأوروبا إلى وضع مختلف عما كان آباء المشروع الأوروبي يريدونه لقارتهم. ستصبح أوروبا في هذه الحال شبيهة بالصورة التي يرسمها ”داعش” وأمثاله عنها، والتي يجيّش أتباعه على أساسها.