بتشييع جثمان حسين آيت أحمد إلى مثواه الأخير أمس فقدت الجزائر زعيما تاريخيا ومناضلا صبورا مخلصا من طراز انقرض. أما أنا ففقدت برحيله قدوة. فقدت الرجل الذي لو كنت أحداً آخر لتمنيت أن أكونه. لم أسمع اسم حسين آيت أحمد في حياتي إلا بعد أن وصلت إلى الجامعة وتسللت السياسة وروح الاحتجاج إلى مكامني (شكراً للكولونيل هواري بومدين ورفاقه على جهودهم الفاشلة لمسح اسمه من الوجود). أما أول وقوف لي أمام هذا الصرح فكان يوم الخميس المصادف الخامس عشر من كانون الأول (ديسمبر) 1989 في مطار الجزائر الدولي. كان ذلك يوم عودته من منفاه في سويسرا وقد كُلفت، وأنا متخرج حديثا وفي شهوري الأولى من العمل كصحافي، بتغطية ذلك الحدث العظيم. أذكر أنني وقفت مذهولا أمام رجل رأيت فيه من الأناقة والحركة والتواضع ما سحرني. لم أقترب منه كثيرا في ذلك اليوم بحكم الإرباك الذي ساد المكان وكثرة الصحافيين وإجراءات الأمن والبروتوكول، إضافة إلى سبب آخر هو حيائي من نفسي على جهلي بالرجل كل هذه السنين. في الخميس الموالي المصادف 22 من الشهر ذاته، كان آيت أحمد يرأس تجمعا شعبيا، توقعت أنه سيكون ضخما، في ملعب الأول من نوفمبر بمدينة تيزي وزو. اقترحت على إدارة التحرير أن أغطي المهرجان، فاتجهت برفقة المصور نورالدين بشار من الصباح الباكر. وجدت مدينة غير التي عرفتها وألفتها تكاد تضيق بآلاف الشباب والشابات والكهول والنساء. اتخذنا مكانا قريبا من المنصة بمساعدة المنظمين وقياديين في جبهة القوى الاشتراكية كانوا في قمة الأدب والتحضر. أستطيع ان أجزم بأن تيزي وزو لم تشهد مثل ذلك المهرجان الشعبي قبله ولن تشهد بعده. كان فريداً ووحيداً لن يتكرر. زاد افتتاني بالرجل وصدقه وحيويته كأنه في العشرين. وقعت في عشقه. بعد انتهاء المهرجان، وكانت الساعة تقارب السادسة مساء ونسمات برد جبال جرجرة تلفح الوجوه، نجحت في التسلل إلى غرفة دافئة بالملعب كان الرجل يستريح فيها. صافحني بحرارة وصدق أعاد لي ثقتي في نفسي. تحدثنا قليلاً فقمت لأستئذن عائداً إلى العاصمة. ألح علي بالبقاء أكثر، فقلت: يجب أن أعود، وأضفت مازحا وصادقا: عندي عرس في العاصمة لا أستطيع التغيب عنه! قال: خليك من العرس يا رجل، تعالى نتناول عشاءً قبائلياً مع بعض في (مدينة) عين الحمام! كل هذا بلغة عربية بسيطة، لا فرنسية ولا أمازيغية، كما يفعل السياسيون الجزائريون. عدت إلى العاصمة وقد ازددت افتتانا بالرجل. منذئذ آمنت بجبهة القوى الاشتراكية، ولو أنني لم أنضم إليها يوما. مرت الأيام والشهور لا أذكر أنني تأخرت طيلتها عن حدث أو اجتماع أو مؤتمر صحافي يحضره أو يديره حسين آيت أحمد. أصبح قدوتي ومثالي. بدأت أحسد الرجل على ماضيه العظيم الطافح بالتجارب والمواقف العنيدة المشرفة. بل بدأت أحسده على نشاطه وأناقته وقدرته على الاقناع، وعلى تواضعه وصدقه السياسي والإنساني. بدأت أحزن على إبداع الجزائر في خذلان نفسها بتخليها عن هذا الرجل وأمثاله منذ الساعات الأولى للاستقلال. ظل مناضلاً فذاً صبوراً وكبيراً بمواقفه وعناده. إلى أن جاءت الانتخابات النيابية في 26 كانون الأول (ديسمبر) 1991. على الرغم من الفوز الساحق للجبهة الإسلامية للانقاذ، ظل مصراً على إتمام المسار الانتخابي ورفض الانضمام إلى دعاة إلغاء النتائج. بل رفض ان يكون رئيساً للدولة في تلك الظروف غير الديمقراطية. فتح عليه ذلك أبواب حملة لم ترحم ماضيه ومكانته بين الجزائريين. بلغت الحملة ذروتها في صيف 1992 بعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف عندما سرت في البلاد إشاعات مسمومة وقذرة معروف مصدرها وهدفها اتهمته بالتحرش بسكرتيرته. التقيته بمقر الحزب بعد أسبوعين من اغتيال الرئيس بوضياف والبلاد تعيش أسوأ أيامها على الإطلاق. لم يكن ممازحاً كما ألفته. حاول إخفاء إحباطه وخيبة أمله محافظاً على هدوئه شديد الاحترام لنفسه. طرحت عليه الكثير من الاسئلة السياسية، وفي ختامها استسمحته في حرج شديد: سي الحسين، بقي سؤال يقلقني لا أستطيع تجنبه. فهم بسرعة خاطفة ثم قال بلا تردد: هذا جزء من حملة مخابراتية شنيعة أتوقع أنها ستكون أخطر.. اتوقع أن أتعرض لاغتيال. وأضاف: عموما، السكريتيرة هناك، تستطيع أن تسألها. خجلت من سؤالي ومن جوابه. رافقني إلى الباب مودعا إياي بحرارته المألوفة لكنها محاطة هذه المرة بهدوء قدّرت أنه نابع من خيبة الأمل. بعد أيام قليلة انتشر في البلاد خبر مغادرة آيت أحمد الجزائر عائداً إلى سويسرا بعد سنتين ونصف من العيش والكفاح السياسي في الجزائر. أُسدل ستار عن مرحلة سياسية مضطربة لكن جميلة عاشتها الجزائر، ورُفع ستار آخر على مرحلة لم تكن تخطر على بال عاقل. لندن تجمعنا مجدداً كان لقاء تموز (يوليو) 1992 الأخير إلى غاية 27 أيلول (سبتمبر) 1998. كنت أقيم في لندن ساعتئذ منذ ثلاث سنوات وملتحقاً حديثاً بهذه الجريدة. اتصل بي المحامي الدولي سعد جبار، وكانت معرفتنا ببعض سطحية، فقال: آيت أحمد موجود في لندن، إن كنت تريد رؤيته استطيع أن أوصلك إليه. لم يكن الأمر يحتاج إلى سؤال ولا يحتمل جواباً لأن الجواب هو نعم كبيرة بحجم الرجل وقامته الإنسانية والسياسية. ولأن سعد جبار اضطر إلى السفر فجأة، التقيت سي الحسين بمفردي في فندق بحي لانكستر غيت بوسط المدينة. عندما وصلت كانت برفقته الصحافية هبة صالح التي تعمل الآن في الفاينانشل تايمز. انتظرت على طاولة جانبية وقتاً لم يكفِ لإكمال قهوتي حتى التحق بي الرجل مصافحاً بحرارة ومعانقاً بود نادر. طبعاً لم يكن ذلك بسبب معرفة سابقة، فقد مرت على الرجل أيام ومحن وخيبات كفيلة بمسحي من ذاكرته. قال: سعد يعزك كثيراً وأبلغني عنك ما أثلج صدري. قلت ممازحاً: لكنني أعرفك وتعرفني قبل أن يعرفني سعد جبار! ثم رحت أسرد عليه تفاصيل لقاءاتنا السابقة في تيزي وزو والعاصمة والكثير من الأحداث التي عززت لديه الثقة بأنه أمام صحافي لم يأت الصحافة صدفة أو تطفلاً. اقترح أن نتمشى في الشوارع لأن الجو لطيف ومغرٍ. مشينا حوالي ربع الساعة فاقترح أن نتغدى. دخلنا مطعماً إيطالياً، فمازح الندلاء والموظفين بلغة ايطالية طليقة. وقف أمامنا رئيس الطباخين وهو بريطاني فخاطبه بإنجليزية لا غبار عليها كانت كافية لتفتح بيننا نقاشاً عن اللغات وصلتها بهويات الأفراد والأمم. لم أسمع منه في ذلك اللقاء الذي تجاوز الثلاث ساعات جملة واحدة باللغة الفرنسية. عرف أنني معرَّب التكوين أعمل في صحيفة ناطقة بالعربية فلم يمارس امامي وعليّ التفوق اللغوي كما يفعل الكثير من السياسيين الجزائريين. تزامن ذلك اللقاء مع إحياء جبهة القوى الاشتراكية ذكرى تأسيسها فحدثني طويلاً عن تلك الظروف بطريقة تجعلك تعتقد أنك تتابع فيلماً وثائقياً أو تتصفح مجلدات تاريخية عريقة في مكتبة قومية. سمعت منه عبارة جميلة لن تُمحى من ذاكرتي: أنت تكسر باباً مفتوحاً! قال إنه رد بها على طلب بن بلة الحوار معه أثناء أزمة جبهة القوى الاشتراكية في 1963 وهو سجين لدى رفاق حرب الاستقلال. أنت تكسر باباً مفتوحاً تسكعنا بعد الغداء في هايد بارك والمناطق الساحرة من حوله بجمالها وهدوئها. لا أذكر انه انزعج أو التفت إلى ساعة يده أو امتنع عن الرد على سيل جارف من اسئلتي وعطشي السياسي والتاريخي. كان يتحدث عن الشهيدين العربي بن مهيدي ومحمد بلوزداد، وعن محمد خيضر وكريم بلقاسم وغيرهم بمعرفة وبساطة من يتحدث عن زملاء صف أو عمل. قلت: أنت تتحدث عن قامات لا نعرفها نحن أبناء الاستقلال إلا أسماء لشوارع كبرى في مدننا! استمعت يومها إلى قصص عن أيام قادة الثورة في القاهرة، وتونس، وعن جولاتهم وطرائفهم خلال الأسفار عبر العالم. استمعت الى قصص عن يوميات سجن ”أولنوي” الفرنسي الذي اعتُقل فيه برفقة خمسة من قادة الثورة في 1956. وسمعت أيضا رأيه في الرئيسين اليمين زروال ومحمد بوضياف، وفي رفيقه عبد الحميد مهري وخصمه سعيد سعدي ولويزة حنون وعباسي مدني وقادة منظمات أبناء الشهداء وأبناء المجاهدين. كان صارما وواضحا في أرائه في الرجال والنساء، دون أن يقلل ذلك من احترامه لخصومه. لمست بسهولة حسرته على ما آلت إليه البلاد وحزنه على عجزه عن التغيير وفشله في معركة الديمقراطية وحقوق الإنسان. اكتشفت يومذاك رجلاً يكن احتراماً نادراً لأبناء الاستقلال الذين ربما كنت أمثلهم أمامه. كانت له ثقة عجيبة فيهم لم تكن موجودة لدي! قلت أكثر من مرة: أنت بطل! فيرد واللكنة القبائلية ترفض مفارقته: آخليك يا سي توفيق.. كاين بطل واحد هو هذاك الشعب الجزايري المسكين! كان لقاء لانكستر غيت ذاك إيذاناً بميلاد علاقة ثقة ومحبة واحترام مع حسين آيت أحمد سأتشرف بها كل حياتي. بعد ذلك اليوم، وإلى غاية مغادرتي لندن إلى الدوحة في خريف 2011، ظل من طقوسه أن يتصل بي قبل أن ينقضي الأسبوع الأول من كل سنة ليتمنى لي عاماً سعيداً مع أطيب وأطرف الأمنيات. عندما تزوجت دعاني لما سماه شهر العسل في سويسرا. قال: ستكون أنت وزوجتك ضيفيّ. قلت ضاحكا: لقد سبق السيف العذل، سي الحسين، شهر العسل جرى الترتيب له، من دوني، قبل فترة طويلة! استمر التواصل بيننا ثابتا بالهاتف والإيميل. حتى عندما كنا ننقطع عن بعضنا لبعض الوقت، يأتيني منه السلام عن طريق المحامي سعد جبار: اسمع، الزعيم راهو يسلم عليك بزاف بزاف… هدرت معه البارح وخصك وحدك بالاسم! وعندما اختُطفت صحافية جريدة ”ليبراسيون” الفرنسية فلورنس أوبيناس في العراق، اتصل بي يقول: يجب أن نفعل شيئا.. لا يمكن أن نترك تلك الجوهرة تضيع أو تتعرض لمكروه. أعتقد أنني كنت من الأوائل الذين أبلغهم في 1999 قراره العودة إلى الجزائر والمشاركة في الانتخابات الرئاسية. كان الأمر لا يزال سراً وغير قابل للنشر، فالتزمت احتراما لثقة الرجل فيّ والتي كانت رأسمالي الأكبر، وإيماناً مني بأن الصحافي القدير هو الذي يعرف الكثير وليس الذي ينشر كل ما يعرف. بعد سنوات قليلة عاد سي الحسين إلى لندن من أجل مقابلة تلفزيونية في قناة الجزيرة. كان ينزل في فندق هيلتون بارك لاين. جلسنا طويلا في مطعم منعزل بالفندق قبل ساعات من موعد المقابلة التلفزيونية أذهلني خلالها بسؤالي عن أفكار واشياء تستحق أن تقال على الهواء، وإصراره على تدوينها بالقلم والورق. لولا معرفتي المتواضعة به لقلت إنه حتما يسخر مني أو يتسلى، إذ كيف لرجل بهذه القامة وهذا الماضي والحاضر أن ”يستعين” بي في ما سيقوله في برنامج تلفزيوني! طالبته يوما بنسخة من كتابه ”مذكرات مقاوم” فأرسلها مع إهداء ممتع بخط يده. ثم طالبته بنسخة من كتابه عن رفيق دربه المحامي علي مسيلي الذي اغتالته المخابرات الجزائرية بباريس في ربيع 1986، فقال في البداية انه لا يحوز على أي نسخة لأن الكتاب بيع ونفد منذ سنوات، ثم عاد بعد أن نسيت أنا الأمر كله وأرسل لي عبر البريد نسخة متهالكة مع هذا الإهداء باللغة العربية (حرفيا): ”أخي توفيق، اسمح لي ما بقيت لي إلا هذه النسخة وقد بعبصتها الأيام والأيادي”. ضحكت في سري وقلت في قرارة نفسي: عظيم هذا الرجل. لم يكن يهمني الكتاب في حد ذاته بقدر ما همّني أنه منه وبتوقيعه ويحمل رائحته وآثار أنامله. اليوم، والجزائر تودع حسين آيت أحمد، أحتفظ في مكتبتي بنسخة من كتابيه ”مذكرات مقاوم” و”قضية علي مسيلي”. وأحتفظ في ذاكرة هاتفي الجوال برقم مسجل بثلاثة رموز باللغة الفرنسية ”ح آ أ”، لن أمحوه إلى الأبد. والأهم أنني أحتفظ في ذاكرتي بلحظات معه لا تُعوّض ونكت كثيرة وأسرار لا تُشترى بكنوز الدنيا.. وبثقة تفوقت ربما على ثقة الأب في أبنائه. هذا عزائي في فقدانه. إلى جنات الخلد أيها الزعيم. ثق أنك تغادر دنيا غير مأسوف عليها وأنك تترك وراءك خرابا بلا أمل وجراحا لن تندمل. لماذا تركتنا لأقزام يعبثون بنا وبمصائر أولادنا ورحلت؟ من لنا بعدك؟ الجزائر إلى ضياع والمغرب العربي الذي حلمت به وحدثتني طويلا عنه، في خبر كان. انتهى كل شيء وبقيت قطط تصر على الرقص في حلبات الأسود.