ترى هل كان بالإمكان حدوث “ربيع أمازيغي” لو لم يصدر محمد بورزام محافظ تيزي وزو قرارا يمنع الكاتب مولود معمري من دخول ولايته؟ هل فكرت نخبة من القبائل وأنجزت مشروعا ناضجا لتطوير اللغة والثقافة الأمازيغية وعرضته على الناس أو رفعته إلى السلطات؟ هل كانت توجد فعلا نخبة في منطقة القبائل مهتمة بالموضوع؟ لم يحدث أي شيء من هذا، كل ما هنالك احتجاج من طلاب جامعة تيزي وزو عقب تدخل السلطات لإفشال برنامجهم الثقافي الذي تصادف مع ذكرى يوم العلم وتضمن من بين ما تضمن محاضرة للأستاذ مولود معمري حول الأدب البربري القديم تعذر تقديمها بسبب قرار المنع المذكور. احتجاج الطلاب قابلته السلطات بعنف لم يسبق أن شهدت مدينة جزائرية مثيلا له، حيث دخلت قوات الشرطة لأول مرة في تاريخ البلاد إلى الحرم الجامعي لفض اعتصام الطلاب واعتقال قياداتهم، سلوك لم يحدث حتى غداة 19 جوان 1965 حين وقفت الحركة الطلابية ضد الانقلابيين واعتصمت لأيام في الجامعة. العنف قابله تضامن عائلات الطلبة واقاربهم وجيرانهم ونزل الآلاف من القرى بحثا عن أبنائهم المهددين بالموت والاعتقال. كبرت الأحداث ككرة الثلج وأخذت طابعا خطيرا حين دخل الإعلام الرسمي الحلبة في التحريض ضد “أعداء الوطن والوحدة الوطنية”. وتوافدت فرق الشرطة والدرك من الولايات المجاورة للسيطرة على الوضع تماما مثلما حدث عام 2001. وعمل الإعلام الفرنسي كثيرا حول نقل الصور والتصريحات على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد وهو من أطلق عليها اسم “الربيع البربري” فعبارة “الأمازيغية” لم تكن وقتها مستعملة تماما حتى أن أكاديمية باريس التي كانت تعنى بالشأن الثقافي القبائلي خصوصا كان اسمها “الأكاديمية الثقافية البربرية”. وفي غمرة تلك المواجهات برزت مطالب ثقافية التف حولها طلاب ومثقفون تحولت إلى تنظيم باسم “الحركة الثقافية البربرية” ومنها فقط بدأ العمل في القبائل حول الهوية المتميزة. أما مناطق أخرى كالأوراس وغيرها فكانت غائبة ولا يبذل بها أي جهد في هذا الاتجاه. ولقد كان من تبعات أحداث القبائل أن انقسمت الصفوف وتشتتت جهود القوى التي كانت في السبعينات ملتفة حول برامج التنمية، اعتقل المئات من الطلاب والأساتذة والمحامين والنقابيين وغيرهم على مدى السنوات التي تلتها ليس في تيزي وزو فقط، بل وفي عنابة وقسنطينة والعاصمة وبجاية وغيرها وشنت حملة كبرى لتشويه كل منجزات الجزائر السابقة ومسارها التنموي وتلميع بدائل مبنية على الاستهلاك. وقتها فقط تبين أن أحداث تيزي وزو لم تكن محدودة في المكان والزمان بل كانت بداية لمنعطف كبير يدفع بالبلاد إلى الأزمة التي خنقتها بعد سنوات قليلة. فقد رتبت السلطات لتحول اتجاه البلاد على كل الأصعدة ليس بالصيغة الإيجابية التي تضيف إلى مسار التنمية حريات فردية وجماعية تسمح بترسيخها أو بابتكار طرق تسيير تضاعف المردود وتقوي فرص النجاح، بل في الاتجاه المعاكس. فقد سنت قوانين الإقصاء الكبرى أهمها المادة 120 من القانون الداخلي للحزب التي تمنع تولي أي جزائري منصب مسؤولية - مهما كان - ما لم يكن منخرطا في جبهة التحرير وعلى الصعيد الاقتصادي شرع في برنامج كبير سمي - بهتانا - إعادة الهيكلة وهو في الحقيقة تفتيت للشركات الاقتصادية ومؤسسات الخدمات إلى كيانات صغيرة غير قابلة للحياة. بالموازاة أطلقت الحكومة نظاما إغرائيا وإغوائيا باسم “برنامج محاربة الندرة” وهو برنامج مبني على الاستيراد حوّل المحلات التجارية الحكومية من أروقة وأسواق فلاح إلى مخازن عملاقة لمنتجات أوروبية عموما وفرنسية على وجه الخصوص تباع بأسعار مدعومة من الخزينة العمومية حتى صارت أقل بكثير من أسعار منتجات مصانع الجزائر. وفتح برنامج محاربة الندرة والمادة 120 من قانون الحزب لأول مرة في الجزائر سوق شراء الذمم الذي تحول في هذه الأيام إلى ما صار يسمى “منطق الشكارة” عوض منطق قانون الدولة. يرفض كثيرون فرضية المؤامرة في أحداث القبائل، ويعتبرونها نتيجة لسلوك فردي لمسؤول شاب ناقص الخبرة ومحدود المستوى الثقافي، لكن أكان منع مولود معمري من دخول ولايته فعلا مدبرا ومدروسا من جهة ما في السلطة أو كان نتيجة غباء المحافظ محمد بورزام، فهو كان فاتحة لتحول كبير في مسار الجزائر. كان منعطفا حقيقيا نحو تشتيت قوى البناء وفتح الطريق أمام تشعبات ومهاترات وقرارات عمياء دفعت البلد إلى أزمة عميقة بعد سنوات قليلة مع أنه كان في الوقت الذي اندلعت فيه الأحداث على نفس خط التنمية مع إسبانيا وكوريا الجنوبية وكانت الجزائر الأوفر حظا لتحقيق السبق بالنظر إلى مواردها الطبيعية. فلقد ركزت الجزائر في السبعينات على عامل التكوين في مجالات العلوم والتكنولوجيا تماما كما فعلت كوريا الجنوبية وكان مفترضا أن تكون الثمانينات عشرية الانطلاق الحقيقي لمختلف مجالات التنمية خاصة الصناعية منها، بقدرات علمية وطنية عالية التكوين. فأكثر ما بني في السبعينات جامعات العلوم والتكنولوجيا ومعظم الإطارات العلمية والتقنية الجزائرية التي تعمر الآن الجامعات ومراكز البحوث في القارات الخمس تكونت في تلك الفترة لضمان الانطلاق الحقيقي للربيع الأمازيغي. إذن لم يكن ربيعا بقدر ما كان بداية مسار مغامر دفع إلى نكبة عاشتها وتعيشها الجزائر حتى اليوم، مسار أبعد البلد عن طريقه الذي كان سيكمل منجزات الاستقلال، كنا على نفس خط الانطلاق مع كوريا الجنوبية وإسبانيا فأين هم وأين نحن الآن؟ ففي مثل هذا اليوم سقطت أوراق الربيع في الجزائر.