تتجلى حضارة وادي مزاب وبنو ميزاب في تمسكهم بدينهم وتقاليدهم في هندستهم المعمارية الأصيلة، لقد بنوا مدنا كاملة فوق جبال وعرة بطريقة رائعة، رغم أنهم لم يكونوا من أصحاب المعدات الضخمة أو الشعوب المتقدمة في ذلك العصر (حوالي 1000 م)، لقد استعملوا الأخشاب والسعف والجريد ليبنوا قصورا رائعة جميلة لها سحر خاص، لقد بنوا مدنا كاملة فوق صخور ضخمة (آت بونور). لقد وصف مؤلف كتاب ”أضواء مزاب” (Lumieres du Mzab) وهو مستشرق فرنسي، مزاب، أن له أضواء وسحرا خاصا، حيث قال: لقد ذهبت إلى مزاب في مطلع هذا العام (إحدى سنوات السبعينات)، ثم رجعت إليه في الربيع، ثم ذهبت إليه في الصيف مرتين، إن لمزاب سحرا خاصا يجذبني إليه من أعماق باريس وقال:.. وإنني أنا كمصور لم أر في بلاد الغرب كلها أجمل من مزاب. (قال هذا في إحدى صفحات كتاب أضواء مزاب). لقد حضر في سنوات السبعينيات عشرات المصورين التلفزيونيين والمستشرقين من جميع أنحاء العالم، وقبله في القرن التاسع عشر العشرات من المستشرقين، ليتعرفوا على أسرار هذا المجتمع ويتعرفوا على سر بقائه متحدا مترابطا كأسرة واحدة، وليستوحوا فنونا أكثر من هندسة مزاب الأصيلة التي أقيمت بعفوية الإنسان. خضعت المدينة المزابية في تخطيطها إلى قواعد المدينة الإسلامية والشمال -إفريقية عموما، باعتبار المزابيين من أعرق شعوب الشمال الإفريقي. أول ما يهتم به المِزابيون. كان الموقع، إذ كانوا يختارون لها موقعا مراعين في ذلك قدرة المدينة على الدفاع ضد المغيرين، ووقايتها من فيضانات الأودية والحفاظ على الأراضي الزراعية ذات التربة الطيبة. وإن أول ما يشد انتباه الملاحظ للمدن المزابية الحديثة توضّعها على روابٍ ( هضبات )، وهذا لا ينطبق على المدن المزابية القديمة. ويرجع سبب ذلك للظروف الأمنية الصعبة التي عاشها المزابيون في ذلك الوقت، إذ كانت بلادهم تقع في منطقة جيرانها لا يُؤتمنون، إذ كانوا لا يعتمدون سوى على النهب والسلب في حياتهم. في أعلى تلك الربوة ، يتوضع المسجد ، واختيار المِزابيين هذا الموقع لإقامة المسجد لدليل على أهميته لهم، إذ يشكل النواة المركزية والروحية للقصر نظرا لوظائفه المتعددة، فهو بجانب وظيفته الدينية، يلعب دور قاعة الإجتماعات الهامة والمركز العلمي للمدينة ومخزن المؤن، والمركز الدفاعي للمدينة، إذ نجده في المدن المزابية محصنا ويصعب الوصول إليه، ويعتبر مسجد آت بونور من أحصن المساجد المزابية. بجانب المسجد تتدرج المساكن متلاصقة متلاحمة لا يعلو واحد على آخر على امتداد الربوة، حتى تنتهي بمجموعة أبراج دفاعية وسور مُحصّن يحيط بكامل المدينة. غالبا ما كان السور يتكون من ظهور منازل لا تفتح أبوابها إلا إلى الداخل. أما في الإمتدادات الأخيرة للمدن المزابية أصبح بعضها يتمتع بأسوار مستقلة عن المنازل، بينها وبين هذه الأسوار شارع عريض، ويكون السور عادة سميكا من الأسفل ويتناقص هذا السمك كلما علا السور. ذلك هو الحال بالنسبة لآت ايزجن، المدينة المِزابية الوحيدة التي لازالت تحافظ على سورها كاملا، حيث يبلغ طوله 2500 متر وارتفاعه حوالي 3 أمتار، يختلف ارتفاع السور حسب موقعه، حيث يكون مرتفعا في المنطقة المستوية أسفل الهضبة، بينما يقل ارتفاعه في المناطق الشديدة الإنحدار منها، ويتخلل السور فتحات للرماية ضيقة من الخارج وواسعة من الداخل حتى يتسنى لأهل القصر النظر إلى الخارج، بينما يصعب للغرباء التجسس إلى الداخل. أما الأزقة فهي عادة ذات ثلاثة أذرع عرضا ، روعي في عرضها أقل ما يكفي لتلاقي دابتين ولتمرير جنازة، كما روعي في تخطيطها مقاومة الرياح والزوابع الرملية، والتقليل من مدة اشعاع الشمس أيام الحر، والإعتدال في انحدارها بحيث يمكن للسكان استعمال الدواب للتنقل والنقل . كما نلاحظ تسقيف بعض الطرقات لأهداف د فاعية، منها أن العدو الراكب، إذا تمكن من دخول المدينة فإنه لا يستطيع الوصول إلى المسجد، قلبها ومركز قيادتها، ومستودع الذخيرة والمؤن. كما أن هذه التسقيفات ، تمكّن أهل المدينة من التنقل على السطوح من حي إلى حي دون اللجوء إلى الأزقة. وربما كان الداعي لهذه التسقيفات كذلك، الحصول على المزيد من الظل صيفا، والوقاية من الرياح والزوابع الرملية. وهناك بعض الشوارع أكثر عرضا من غيرها مزودة بمقاعد مبنية، كانت قديما أسواقا للمدينة، حيث أن المدن المزابية مرت بمجموعة من التوسعات على مدى تاريخها، فرضها التزايد الديمغرافي للمدن. وكان المزابيون في كل توسعة ينشئون سوقا وسورا وأبراجا جديدة للمدينة. ومن أول اهتمامات المنشئين للمدينة كذلك، حفر البئر العمومية التي لا يمكن تصور الحياة بدونها، ثم تتلو هذه البئر آبار أخرى كلما امتد العمران. والجدير بالذكر أن عملية الحفر هذه ليست بسهلة، إذ تتم في الصخر على عمق قد يزيد على سبعين مترا، وبالوسائل التقليدية. كل مدينة من مدن مْزاب واحة متفاوتة الإتساع تحوي داخلها مجموعة من السدود والآبار ومنشآت الري، والمساكن التي تسمى ”تَزْرِيبْتْ ” بالمزابية. هذه المساكن تأوي إليها العائلات لقضاء فصل الصيف الحار للتمتع بلطافة الجو، ولتجنيب رب الأسرة الرجوع الى أهله بعد تعب اليوم معرضا نفسه الى لفحات الشمس الوقادة. ولا يعني هذا أن المرأة المزابية تقضي فصلا كاملا في الراحة تحت ظلال النخيل والكروم، بل إنك لتجد في مقدمة الأثاث الذي يُرحّل الى الواحة، إلى جانب الضروريات من الفرش والأواني، منسجا أو منسجين مع طاقم آلات الغزل. لذلك فإن الهندسة المعمارية لمسكن الواحة لا تختلف كثيرا عنها في منزل المدينة، فهناك تشابه كبير بين طابقيهما الأرضيين. أما بالنسبة للطابق الأول فمعظمه سطح لعامة الأسرة تقضي فيه الليل في الهواء الطلق، يحيط به جناح مسقف وغرفة أو غرفتان، لكل منهما أدرج خاصة تؤدي إلى سطح صغير يعلو الغرفة يأوي إليه الزوجان.