مضت ألف سنة، وتعاقبت أحداث تاريخية غيرت كثيرا من ملامح العالم وتقاطعت تأثيراتها الطبيعية والبشرية لترسم في كل مرحلة شكلا يميز حضارة المدن.. فمدينة غرداية قاومت عشرة قرون من الزمن لتبقى وفية لمؤسسها الشيخ بابا سعد خلال القرن الحادي عشر الميلادي، وظلت تأسر زائرها حتى في القرن الواحد والعشرين بسحر الأصالة وتعطيه شعورا بأنه يسافر في التاريخ دون ان يبرح جغرافيته، فيقف على التماسك الاجتماعي الذي يعتصم به سكان غرداية والنابع من الاعتصام بحبل الله والاتفاق على ما ورد في سنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولولا بعض المظاهر العصرية التي لاحت بالمدينة على غرار السيارات والهواتف المحمولة ومقاهي الانترنت لانتابك شعور بأن المدينة قد أسرت الزمن ولم يغيرها الزمن. ومن اجل ولوج أعماق مدينة غرداية التي تعد من أعرق المدن الجزائرية وأكثرها حفاظا على انسجامها الاجتماعي والعمراني والثقافي وحتى الاقتصادي وتعلق سكانها بمظاهر اللباس واللغة والمعمار وأسلوب الحياة، كان لزاما علينا الاستعانة بالمرشد السياحي، حيث تم اختيار ''عمي ناصر'' صاحب دكان بيع التحف التقليدية المرتبطة بالمنطقة المتواجد بقلب ساحة السوق بغرداية،الذي قال أن المدينة المشهورة بوادي ميزاب أو شبكة ميزاب هي منطقة صحراوية تقع في جنوب البلاد على بعد حوالي 600 كلم من العاصمة وتشمل احياء بريان، مليكة، بني يزغن، بونورة والعطف، وهي عبارة عن قصور. تاريخ المدينة كانت نشأة هذه الأحياء في أوائل القرن الخامس هجري الموافق للقرن الحادي عشر ميلادي والتي قامت بعد سقوط الدولة الرستمية، والملاحظ في أحياء ميزاب السبعة بأن خمسًة منها وهي تَجْنِينْتْ، آت بونور، تَغَرْدَايْتْ، آتَمْليشْتْ، آت اِيزْجَنْ، متجاورة ولا تبعد عن بعضها سوى ببضعة كيلومترات، وتعرف بالقرى الخمس، أما : آت ايبَر¥ان، وتي¥ْرار، فهما بعيدتان عن الأحياء السبعة السابقة، (آت ايبَرْ¥ان :45 كلم شمالا، وتي¥رار: 110 كلم شرقا) وفي ظروف غير معروفة، حُرّفت أسماؤها وأصبحت على ما هي عليه اليوم. وقد بنيت كل هذه الأحياء على مرتفعات لأهداف كثيرة وبهندسة معمارية مميزة جذبت المهندسين من جميع أنحاء العالم. وتعتبر مدينة تاجْنِينْتْ من أقدم القصور السبعة ويقصد بهذه الكلمة المكان المنخفض، أسسها الشيخ خليفة بن آبغور سنة 402 ه 1012م، تقع على بعد سبعة كيلومترات من آت بونور، تسمى اليوم بمدينة العطف. . وآتْ بونورْ أُنشئت سنة 457 ه - 1065 م، واسمها نسبة إلى القبيلة المصعبية التي بَنَت وسكنت هذه المدينة قديما. وتتميز آت بونور بأنها مبنية فوق ربوة صخرية منيعة، مما شكل لها تحصينا طبيعيا وتقع قرب آت ايزجن وحُرِّف اسمها إلى بونورة. وتَغَرْدَايْتْ التي أنشِئت سنة 447 ه - 1053م، وأول من سكنها الشيوخ بابا وَالجَمَّة، وأبو عيسى بن علوان وبابا سعد، وأصل تسمية: تَغَرْدَايْتْ بالمزابية هو القطعة المستصلحة من الأرض، والواقعة على حافة الوادي، وتوجد عدة قرى تحمل نفس الدلالة في أرجاء المغرب الإسلامي، وهي أول مدينة تُشاهَد عند القدوم من الشمال وحُرّف اسمها إلى غرداية. وآتْ اِيزْجَنْ أُسّست سنة: 720 ه - 1321 م، واسمها نسبة إلى القبيلة المصعبية التي سكنت المدينة وتعتبر آت ايزجن، من العواصم العلمية والدينية العريقة، وهي المدينة الوحيدة التي حافظت على أصالتها من كل النواحي إلى اليوم، وتعتبر المدينة المثالية، ومن أهم مميزاتها، سورها الذي لايزال قائما إلى اليوم. أما مدينة آت مْليشْتْ فأسست عام 756 ه - 1355م، اسمها نسبة إلى ''مْلِيكْشْ '' أحد زعماء قبيلة زناتة التي تنتمي إليها قبيلة بني مصعب، تقع على هضبة مرتفعة نسبيا بين قصري تغردايت وآت ايزجن، يستطيع الناظر منها أن يرى القصور الثلاثة (تغردايت، آت ايزجن، وآت بونور). ومدينة تي¥رَارْ أسست سنة 1040 ه - 1631م، ومعنى تسميتها الجبال البيضوية التي بجانبها سهول صغيرة مقعرة يستقر فيها الماء وتقع على بعد حوالي 110 كلم شرق القرى الخمس، وهي على أرض طينية، على خلاف المدن الأخرى التي تقع على جبال صخرية، وتشتهر بواحاتها الشاسعة التي يسقيها وادي ز¥رير. وأخيرا مدينة آت ايبَرْ¥ان التي أُنشئت سنة 1060ه - 1690 م، وهي خيم مصنوعة من الوبر، كان أهلها ذوي خبرة في نسج هذا النوع من الخيم، تقع في تقاطع الأودية الثلاثة بالوح، السّودان، ووادي نْ سَا. وسميت منطقة ميزاب ببلاد الشبكة، نظرا لتوفرها على أودية عديدة، والتي لا يتجاوز عمقها مائة متر، تتجه كلها من الشمال الغربي نحو الجنوب الشرقي، لتنتهي عند بحيرة تتميز بالرمال شمال غرب مدينة وارجلان (ورقلة). وتتجلى حضارة وادي ميزاب وبني ميزاب في تمسكهم بدينهم، وأصالتهم وتقاليدهم، وفي هندستهم المعمارية الأصيلة، لقد بنوا مدنا كاملة فوق جبال وعرة بطريقة رائعة، رغم أنهم لم يكونوا من أصحاب المعدات الضخمة أو التقنية المتقدمة في ذلك العصر (حوالي 1000 م)، لقد استعملوا الأخشاب والسعف والجريد، ليبنوا قصورا رائعة جميلة تتميز بسحر خاص الى جانب مدن كاملة فوق صخور ضخمة. ويراعي الميزابيون في تخطيط القرية أن تكون على قمة جبل لتوفير المناعة والمحافظة على الأرض الصالحة للزراعة، ويتم التخطيط للمسجد في الوسط ثم تبنى حوله المساكن ويكون السوق بجانب المسجد وقد كان لا يسمح في القديم ببناء مسجد آخر في القرية مراعاة لوحدة وتماسك الصفوف وتجنبا للفرقة ولا يخفى ما لهيئة العزابة وهي جمعية المسجد من اثر روحي ودور قيادي في المنطقة. وقد شهدت كل قرية من تلك القرى توسعا في العمران على مراحل التاريخ وكلما اتسعت القرية وتكاثر سكانها توسعت مرافقها العامة ويتم إدخال إضافات على المسجد وإصلاحات في المرافق أو يضاف مسجد ثان ويكون تابعا للأول كلما كانت تلك القرى مسورة بسور يدخل إليها من أبواب معينة. المحافظة على أثر السلف وحول استفسارنا عن النظام الاجتماعي المتجذر في المجتمع الميزابي أفادنا عمي ناصر بأن هذه المدن عرفت تنظيما عشائريا محكما فقد كان كل من فيها ينتمي إلى عشيرة معروفة وهناك 19 عشيرة بغرداية لوحدها، والوافد إليها من بعيد يهدف للاستقرار وعليه ان ينضم إلى تجمع عشائري من تلك التجمعات فيصبح عضوا من أعضائه له ما لهم وعليه ما عليهم، ومهما كان حجم العشيرة صغيرا أو كبيرا فإنها تشعر بأسرة واحدة متعاونة ويتفقد بعضها البعض، ويقوم مجلس العزابة بحل الخلافات الحاصلة في المدينة ومقرها المسجد ويستعينون بالشورى فيما بينهم، وتتكون من ممثلين عن كل عشيرة يتصفون بالزهد والإيمان والصلاح. كما يتميز سكان المنطقة منذ القديم بتعلقهم بالعلم خاصة علوم الشريعة وعنايتهم بحفظ القرآن الكريم لدى الجنسين. وبنو ميزاب قبيلة أمازيغية تحافظ على تقاليدها ومعتقداتها وشعائرها التعبدية وأسلوب حياتها، وتتبع المذهب الإباضي ويعرفون بلباسهم التقليدي وهو عبارة عن سروال فضفاض وطاقية رأس. وتتميز المنطقة كذلك بظاهرة الزواج الجماعي التي يبادر بها أي ثري لما يزوج ابنه ويتكفل من كل النواحي بتزويج شباب آخرين من المعوزين بهدف تعميم الفرحة على كل أفراد القرية، وأضحت هذه العادة متداولة في العديد من الولايات. التجارة عصب الحياة وترتبط معيشة الميزابيين بالتجارة، وكانت قبل ذلك تعتمد على الفلاحة، وكانوا يغرسون النخيل على بعد 5 كلم عن مقر سكناهم، وكشف ''عمي ناصر'' عن تواجد حقول نخيل تعود إلى 3 قرون مازالت تثمر إلى يومنا هذا، ثم تحول نشاط سكان المنطقة إلى التجارة بسبب الشيخ ''عمي سعيد'' مع بدايات تأسيس مدينة غرداية، وقد سمح بتعايش 5 عائلات يهودية كانت تحترف التجارة، ومع مرور الوقت احتك الميزابيون بهم وأصبحوا يمارسون التجارة وتفوقوا فيها، وأفاد أن ثرواتهم يجمعونها بالاقتصاد والتقشف وهو الأسلوب الذي يلقنه الأب لابنه، ويسير عليه الأحفاد فيما بعد والأكثر من ذلك فإن الآباء يوجهون أبناءهم الى العمل وجمع المال بالاعتماد على أنفسهم ولا يتدخل الولي في ذلك حتى يجني الشاب ثروته بتعبه وعرق جبينه دون أي مساعدة من الوالدين. والملفت في غرداية غياب متسولين أو لصوص، فمجتمع بني ميزاب يتسم بالتآزر الشديد حيث يشرف مجلس الأعيان أو الكبار على إدارة شؤون السكان من تجارة وعلم وشؤون خاصة، وتحكم حياة الميزابيين قواعد صارمة تطبق على الجميع، فكل السكان بمن فيهم أصحاب الأعمال التجارية خارج البلدة يساهمون في تحقيق الصيانة والرعاية للمجتمع المحلي. ولا يقتصر نشاط وحركة المزابيين على المدن الخمس المحيطة بالوادي، فغالبية المدن الجزائرية تجد فيها متاجر العقاقير مثلا يديرها أحد المنحدرين من القبيلة. فقد أسسوا منطقة صناعية على أطراف غرداية، حيث تتم صناعة معظم الأدوات. وتعتبر غرداية أحد أكثر المواقع السياحية شعبية في الجزائر، تجلب السياح للتمتع بالكثبان الرملية والواحات والمعمار المتميز وخاصة حرفة الحياكة التقليدية والصناعات اليدوية والزرابي المشهورة، فضلا عن منتوجات نسيجية أخرى مثل البرنوس وملابس الأطفال التقليدية والتحف التذكارية، ومن بين المنتوجات التقليدية الأخرى نجد الملابس الجلدية والنحاس واللوحات الفنية الرملية التي أعطت لوادي ميزاب شهرة كإحدى أهم المناطق الحرفية في الجزائر.