حروفي اليوم خجلى•• لا تعرف كيف ترتب حركاتها أمام عبث كتاباتي•• حروفي تقول لي: لا الذين أبدعوا وأنتجوا أعمالا وكتابات مبهرة أفادوا الناس في شيء ولا من ألف الروائع الفكرية والأدبية والعلمية غير ما يلزم تغييره في الناس؟ ورغم أهمية الكتابة والإبداع كقيمة حضارية عالية فهي لم تنفذ إلى قلب الأشياء ولم تمس جوهر الإنسانية فالإنسان هو الإنسان منذ بدء الخليقة والشر هو الشر والخير هو الخير، ولا الرسم لون حياة الناس ولا الشعر حرك ضمائرها ولا الأدب غير سلوكاتها ولا الفن عامة استطاع أن يغلب قيم السمو والجمال والسلام في العالم•• أنا الآن أكتب•• وآخر يقتل في مكان ما•• أنت الآن تبدع وغيرك يدمر في بقعة ما•• هو يؤلف الآن وثمة من يسرق ويظلم ويرهب ويبيد البشر في جهة ما•• لا شيء توقف•• لا شيء تغير منذ الأزل•• تراث من الإبداعات والفنون يقابله تراث من الحروب والأهوال والفجائع والدموع والجوع والقهر والشر بأنظمته ومستوياته•• وكأن كلماتنا اليوم تحتاج إلى زي آخر•• كل الأزياء التي صممها لها التاريخ وفصلتها لها الحقب والأحداث لم تعد تلائمها•• لم تعد تبهر بها أحدا أو تغوي بها مخلوقا•• ومهما بلغت قيمة إبداعاتنا ويرقى تفكيرنا ووجداننا، لازلنا على الطرف الآخر مما حدث ويحدث وسيحدث في دنيانا هذه•• وأبدا كلماتي لن تستسلم•• أحسها الآن تفكر في أساليب للتنكر والمراوغة مادامت تخاطب واقعا ازدهر فيه الخبث والتنكر وانتعشت فيه المهازل السياسية والإنسانية•• لا مفر من ذلك مادامت لغتي لم تعد تثق في حاستها الإقناعية•• وستبحث ربما عن مداخل سرية، إلى أي فكر، إلى أي مخ، إلى أي قلب لتزرع فيه شيئا ما من حمولتها الإنسانية وإن بمقدار ذرة•• ولعل أحسن ما فينا نحن المنجرفون وراء الكلمات، المتشبثون بتلابيب اللغة، أننا نعرف كيف نحزن، كيف نتوجع، كيف نتألم من أجل الآخر•• يكفينا أننا نحيا بذاك الألم الجميل•• بذاك الوجع النبيل الذي يرقي مشاعرنا ويغذي إنسانيتنا•• ذاك الوجع الذي يطهر وجودنا في هذا الواقع المقرف•• واقع الفاعل والمفعول به•• فنحن لا نملك إلا أن نذعن لذائقتنا "الغبية" التي لا تعرف أكثر من أن تقول قولها•• من أن تكتب صدقها•• وسنكتب وسنبقى على قيد الحلم، على قيد الكتابة التي نعدها فضيلتنا الكبرى•• فضيلتنا التي لا تبخل علينا بأن تمنحنا من حين لآخر هبات من الأمل•• من "لعلني سأحقق فتحا ما هذه المرة"• وبلا وعي ترانا نتلذذ ذاك الانتظار مع علمنا أنه لا يخفي وراءه سوى انتظار وانتظار•• لقد تعلمنا ألا نطمح إلى تحقيق ما يجب أن يكون بقدر ما نطمح إلى تلك القدرة على ممارسة الانتظار بالكفاءة الحضارية اللازمة•• المهم أن نبقى أصحاب الفضول والجرأة وملاحقة الحقائق حيثما كانت•• وهم سيظلون لا هم لهم سوى أن يبقوا ضدنا•• وليكن، فنحن أهل الضد، بل خلقنا لهذه الضدية، ولهذا الوقوف في وجه كل ما لا يلائم إنسانية الإنسان ولا يليق بفطرته الحرة••