أثار حريق كاتدرائية نوتردام موجة حزن عارمة عبر العالم، ومن بين أسباب حدة هذه الصدمة هو أن المعلم الباريسي الشهير ينتمي إلى المخيلة الجماعية العالمية التي دخلها عبر الأدب الفرنسي، ولا سيما من خلال مؤلفات فيكتور هوغو. العديد من المواقع الأثرية والمتاحف والمباني التاريخية عبر العالم دمرت ونهبت نتيجة الحروب أو الكوارث الطبيعية، غير أن حريق كاتدرائية نوتردام أثار صدمة غير مسبوقة عبر العالم. يبلغ من العمر هذا الصرح الباريسي الذي يشكل رمزا للثقافة الفرنسية 850 عام، وهو مدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 1991. لكن البعد الديني والمعماري والتاريخي والمادي لا يكفي لتفسير مدى التأثر الحميمي الذي أثاره الحريق في قلوب عشاق الثقافة الفرنسية. ولا بد أن وقع وحجم هذه الصدمة عائد للعمق الذي اكتسبه المعلم في المخيلة الجماعية، فالجميع عبر العالم يعرف كاتدرائية نوتردام من دون (أو قبل) أن يسافر إلى العاصمة الفرنسية ويراها بعينيه، لأن كاتدرائية نوتردام هي تراث غير مادي. وقد قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أولى كلماته من أمام الكاتدرائية، مساء الاثنين والنيران تأكلها: نوتردام خيالنا.. أدبنا . تحظى مؤلفات فيكتور هوغو (كاتب فرنسي من القرن 19) مثل البؤساء و أحدب نوتردام بإقبال في مختلف أنحاء العالم، حتى أن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي لا يخفي إعجابه بهوغو وبمواطنه رومان رولان الحائز جائزة نوبل للأدب. وهذا البعد الأدبي يشبه البعد الروحاني الذي تطرق إليه بكثافة المؤمنون، إذ أكد كبير الأساقفة أن نوتردام ليست من حجر بل من حجر حي، وهي أيضا الفكرة التي تداولها العديد بعد أن أفاد عناصر فرق الإطفاء بأن الصليب لم يسقط وسط الكنيسة. ولا تقتصر المراجع الأدبية حول نوتردام على أدب فيكتور هوغو، وإن كان الرواج الأكبر لها في القرن التاسع عشر حين عرفت القوطية أوج ازدهارها، فذكرها مثلا تيوفيل غوتييه وجيرار دي نرفال. كتب غوتييه مخاطبا نوتردام : رغم ذلك ومهما كانت باريس جميلة في ثوبها الملتهب، فهي فقط جميلة من أعلى أبراجك . من البعد غير مادي إلى البعد الاستباقي المذهل في الأعمال الأدبية التي تناولت هذا المعلم هو قوته الاستباقية، فهوغو نفسه وصف الكاتدرائية وهي تحترق: كل الأنظار توجهت نحو أعلى الكنيسة وما رأوه كان مذهلا. فعلى قمة الرواق العلوي، أعلى حتى من وردة الزجاج المعشق المركزية، ارتفع اللهيب بين الجرسين مع دوامة من الشرارات المتطايرة غضبا التي كانت تخفت مع الريح . وأكد جهاز الإطفاء، صباح الامس، أن فرق الإطفاء ركزوا خلال الصباح على برجي الجرسين العملاقين في الكاتدرائية وتأكدوا من عدم تعرضهما للدمار. لكن سخرية الأشعار ، إن جاز القول، تقضي بأن الأدب يغذي الأدب على غرار النار التي تنتشر في الهشيم، فجيرار دي نرفال بدوره يتصور اندثار وانهيار نوتردام ويلمح إلى أدب هوغو: سيأتي العديد من جميع بلدان الأرض ليتأملوا هذه أنقاضها التعيسة حالمين ومعيدين قراءة فيكتور فسيخالون وكأنهم يرون الكاتدرائية القديمة كما كانت عليه قوية وساحرة تنتصب أمامهم كظل ميت . هكذا، فإن رسالة الشعر والأدب الفرنسيين تقول منذ قرون إن روح الثقافة الفرنسية غير مرتبطة بزمان أو مكان طالما ظل خيالها وإلهامها حيين. وتواترت ردود الفعل من مختلف أنحاء العالم، شرقا وغربا، تضامنا مع الشعب الفرنسي، وليس فقط من الدول الفرانكفونية، علما أن الحلقة الأخيرة تتوسع. كتب وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، عبر تويتر: حزين جدا للنيران الرهيبة التي تدمر كاتدرائية نوتردام العظيمة، معلم مقدس مهم ليس لفرنسا فقط، كارثة رهيبة لرؤية هذا يحدث . ويوجد منذ بضع سنوات في أبوظبي فرع لجامعة السوربون الباريسية العريقة.