ربما كان مفهوم «الغربة» عند عامة المواطنين يعني بناء المستقبل وتحسين الوضع والمستوى المعيشي للأفراد، لكن مفهوم «الغربة» أعمق بكثير من المفاهيم السطحية، فترك البلد الأم ليس بالهيّن، وفراق الأهل والأحبة أليم، وعذاب العيش في البلدان الأوروبية عظيم، حيث يجبر معظم شباننا الجزائريين المقيمين بالخارج على العيش في الجحيم الأوروبي الذي يتذوقون فيه المرمر، وهو ما حدث لسفيان الذي غادر الجزائر وكلّه أمل، سعيا منه لتحسين وضعيته الإجتماعية، خصوصا وأنه ينتمي لعائلة بسيطة. بدأت رحلة سفيان نحو الهجرة وهو لا يتجاوز العشرين من العمر، بعد أن أودع طلب تأشيرة وقوبل ردّه بالإيجاب، ليغادر أرض الوطن ويترك والديه في سبتمبر من عام 2000، ذهب وكلّه أمل خصوصا وأن فكرة الجزائريين عن الهجرة إلى الدول الأروبية هي العيش في سعادة وهناء، معتبرين أن فرنسا وبلجيكا إلى جانب إسبانيا، ناهيك عن الولاياتالمتحدةالأمريكية وإنجلترا، بلدان مثالية ستمكّنهم من العيش حياة راغدة كتلك التي يحياها السلاطنة والملوك، لكن بمجرد أن وطأت قدماه الأرض الفرنسية، تغيّرت الأفكار الذهنية المكونة ليصطدم بالواقع المرير خصوصا وأنه اضطر في السنوات الأولى من عيشه ب«الغربة» إلى الإقامة بإحدى الفنادق وهو ما أدى إلى اسنزاف جيوبه، ليجد نفسه في العديد من المرات مضطرا إلى المبيت في العراء دون غطاء ولا أكل بسبب افتقاره للمال، وملزما لتحمل برودة الشتاء القاسية بفرنسا، وهنا قال سفيان «كنت أعيش في نعمة بالرغم من بساطة المستوى الإجتماعي لعائلتي ومزاولة مهنة سائق حافلة إلا أنني كنت أشعر بالدفء العائلي ودفء الأحبة، فالجزائريين على عكس الأوروبيين يتميزون بروح التعاون بينهم وهو ما يضفي على الحياة بالوطن رونقا تتقاطر منه أسمى آيات المؤازرة»، مضيفا أن الوضع القاسي الذي تخبط فيه وتجرُّعه للمرارة مدة سبع سنوات كاملة، غيَّر مفهومه بشكل كلي عن الهجرة و«الزماڤرة»، والتي كانت تعني عنده سابقا حياة النعيم، لتعني له عقبها «العيش في جحيم»، مستدلا بالقول الشعبي المأثور «من بعد ما كنت فضة اليوم أرجعت نحاس» للتعبير عن الفرق الشاسع بين ما كان عليه وهو بين خِلانه بوطنه الأم وما آل إليه من وضع بائس في بلد «الغربة» بعد أن وجد نفسه غريبا بين أناس وصفهم بالباردين والخالين من العواطف الانسانية خصوصا منهم الفرنسيين الذي أكد لنا بأنهم يمارسون التمييز العنصري على الأجانب على غرار الجزائريين والأفارقة ويعاملونهم بسوء. واستغل محدثنا الفرصة ليوجّه نداء للشباب الجزائري ليدعوهم فيه إلى عدم ترك البلاد ومساهمتهم في بنائه وتطويره، خصوصا وأن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة جاء بالمخطط الخماسي الذي يحوي على عدة نقاط تخدم الشباب الجزائري على غرار الدعم في البناء الريفي، تشغيل الشباب، إلى جانب منح قروض «لونساج»، وتوفير الأمن وغيرها من المبادرات التي جاءت بغرض النهوض بالشباب وتمكينهم من المساهمة الفعالة في تشييد الجزائر، وهو ما لم يتوفر خلال الحقبة الزمنية التي غادر فيها سفيان أرض الوطن، كون أن الجزائر كانت لا تزال تتخبط في مخلفات العشرية السوداء، مشيرا إلى أنه لو كانت هذه النقاط متاحة في زمنه لما هاجر وترك الجزائر أبدا. سبع سنوات كاملة بدون وثائق إقامة مرّت عليّ أيام من دون عمل، قضيتها في ضيق وشدة لا يعلمها إلا الله بدون مأوى ولا أموال، ولم أطلع أسرتي بما مررت به إلا بعد حصولي على أوراق الإقامة كي أتفادى إثارة قلق الوالدين، فقد تعلمت تحمل المسؤولية منذ صغري خصوصا وأني أكبر فرد في العائلة، فمنذ سن ال16 سنة كنت أزاول عدة مهن حرة على غرار صنع الشكولاطة وبيعها لمختلف المحلات المتواجدة بحي عين النعجة بجسر قسنطينة، كي أجني بعض الأموال من أجل عائلتي خصوصا وأن فترة التسعينيات تميّزت بركود اقتصادي رهيب، أين اضطرت العديد من العائلات إلى العدول عن مزاولة أعمالها بصفة دائمة بسبب الوضع الأمني السائد آنذاك، فالوالد كان يعمل خياطا بالأربعاء التي كانت من بين النقاط السوداء التي مارس فيها الإرهاب شتى أنواع الترهيب النفسي ليضطر الإعتزال بسبب الوضع الأمني آنذاك، كما أننا ترعرنا في أسرة متشبعة بروح المسؤولية وهو ما ساعدني كثيرا على تخطي العقبات التي صادفتها بالمهجر، ففي «الغربة» لا وجود للأقارب وإن وجدوا فليسوا كؤولئك المتواجدين في الجزائر، صحيح أنهم يقدمون لك بعض الخدمات على غرار توفير المأوى في الأيام الأولى من الهجرة، إلا أنه يتوجب عليك البحث عن مكان للإقامة بمجرد معرفتك بالمناطق والطرقات، وهو ما عملت عليه للإستقرار بالمهجر، فقد استقبلت في بيت ابن خالي بباريس ولكن بمجرد إلمامي ببعض التفاصيل الخاصة بالمنطقة وطرقاتها في الشهريين الأولين من إقامتي هناك، بدأت بالتفاعل والتأقلم مع الوضع الذي لم يبد لي صعبا للوهلة الأولى لكنني اكتشفت صعوبته مع مرور الأيام. فرنسا.. تستنزف الطاقات الشبانية الجزائرية لبناء اقتصادها وقد أكد سفيان عندما إلتقت به «السياسي»، أنه عانى بشدة خلال هجرته بعد أن وجد نفسه مضطرا للعمل بصفة غير قانونية، من أجل دفع تكاليف الإقامة بالفندق ليضطر للإختباء في كل مرة من مصالح الشرطة الفرنسية بسبب عدم حوزته لوثائق الإقامة، فقد بقي لمدة سبع سنوات كاملة بدون وثائق إقامة، يعمل من هنا وهناك ويستغله كل من هب ودب خصوصا الفرنسيين الذين يشغِّلون حالات مماثلة لحالة محدث «السياسي» بأجور زهيدة جدا. خلال هذه السنوات يقول محدثنا «اضطررت لبيع العطور في السوق بصفة غير شرعية، ولطالما تعرضت لمباغتة الشرطة لي وأنا استرزق وأكافح للبقاء وفي معظم الأحيان كانت سلعتي تحتجز بعد قيام الشرطة الفرنسية بمصادرتها في حين ألوذ بالفرار في العديد من المرات، ما تسبب في خسارة الأموال القليلة التي ادّخرتها واستخدمتها من أجل تحقيق أرباح معتبرة تساعدني في مواجهة قساوة الحياة اليومية بالغربة، ما اضطرني لتغيير النشاط والتوجه للعمل كطباخ في أحد المطاعم الجزائريةبفرنسا بالرغم من عدم معرفتي وخبرتي بهذا المجال لكن تجاوزت الأمر وتأقلمت مع الأطباق الفرنسية والجزائرية على حد سواء، لكن الأجر الذي كنت أتقاضاه كان زهيدا جدا ولا يكفي حتى لسد حاجاتي اليومية بأكملها، وبالرغم من ذلك استمررت في العمل لدى صاحب المطعم بالرغم من استغلاله لي بسبب معرفته بوضعيتي، فقد كنت أعمل لساعات طويلة دون تذمر لأضمن رغيف العيش، ولطالما فكرت بما آلت حالي إليه، خصوصا وأنني ككل الشباب الجزائري لا أرضى بالذل والاستغلال و«الحڤرة» لكن حاجتي الماسة للعمل وعدم حوزتي لوثائق الإقامة الفرنسية حال دون التصرف بتسرع والتغاضي عن بعض التصرفات التي ارتكبت في حقي خصوصا وأني في حالة لا تخوّل لي اللجوء للشرطة من أجل تقديم شكاوي على الأفراد». إصابتي زادت من تأزم وضعي حرمت من وطني لسبع سنوات، ولم أستطع زيارته بسبب عدم حوزتي للوثائق الرسمية، وهو ما أشعل نيران قلبي، وزاد من مأساتي، افتقدت أفراد أسرتي بما فيهم الجدة التي ربّتني والوالدين إلى جانب الإخوة، كنت أحادثهم عبر الهاتف مرة كل 15 يوما، ومرّت عليّ فترة انقطعت فيها كل أخباري، ما أثار قلق الوالد الذي راح يسأل عن أحوالي من جيراننا بالقرية الذين يأتون من أجل تقاضي أجورهم بفرنسا وهم من الجالية الجزائرية المقيمة بالأراضي الفرنسية منذ الإستقلال، وعندما أتيحت أمامي أول فرصة اتّصلت بالأقارب كي أطمئنهم عن حالي، لكني لم أكن بخير فقساوة الحياة أغشت عني الرؤية، وتسببت بجهلي وفي لحظة غضب قمت بضرب يدي بباب زجاجية، ليغمى عليا وأجد بعدها نفسي مستلقيا بإحدى أسرة مستشفى باريس أتلقى العلاج بعد خسارة الدم بسبب النزيف الذي دام لساعات، ليخبرني الدكتور أن يدي في حالة عجز ويجب معالجتها مع ممارسة التمارين الرياضية والمداومة على التأهيل للتمكن من استرجاع حيويتها في المستقبل. تسببت الإصابة بشلل في يدي وخضعت لعمليتين جراحيتن لأتمكن في الأخير من القيام ببعض الحركات البسيطة لتحريك يدي، وخضعت لعدة تمارين خلال سنة كاملة من الزمن لمحاولة استرجاع القدرة على ممارسة النشاطات اليومية بصفة عادية، كما كان عليه الوضع قبل الحادث المشؤوم، لكن بقي تأثير الإصابة قائما خصوصا في فصل الشتاء أين كنت أشعر بالبرودة وهي تنخر عظامي وتتسبب بالألم والوخز في مكان الإصابة، وهو ما حرمني العمل لمدة سنتين كاملتين، ولكن بفضل أحد الأصدقاء الجزائريين المغتربين بفرنسا تمكّنت من تجاوز الأمر خصوصا بعد أن قدّم الدعم لي وآواني دون قيد أو شرط وفتح لي أبواب بيته وقلبه ليكون نعم الأهل، وليشرق عليّ بصيص الأمل من جديد. شهادتي ساعدتني على تخطي الأزمات وبعد شفائي وبما أني حائز على شهادة بناء ومتخصص في تزيين المنازل بدأت أعمل في مجال تخصصي، من خلال التوجه إلى شقق الفرنسيين أو الجزائريين وحتى الجاليتين المغربية والتونسية للقيام ببعض التعديلات على مستوى الأرضية والأسقف إلى جانب الحمامات، كنت أوفر قوت يومي تنفست الصعداء وآمنت بأن الظروف تحسنت لكن دوام الحال من المحال، فسرعان ما تلقيت إصابة على مستوى الظهر وفي عمودي الفقري، لأحرم من ممارسة المهنة التي اخترتها لنفسي وأنا بأرض الوطن، بقيت مستلقيا في الفراش لمدة سنة كاملة، ولم أحرك ساكنا بسبب الإصابة البالغة التي تسببت لي بالشلل، لتعود المعاناة وترافقني من جديد، زرت أطباء كثر وتلقيت العلاج اللازم وبدأت حالتي بالتحسن، ولما شفيت عاودت مزاولة المهنة ولكن هذه المرة في الأنفاق من خلال العمل بميترو فرنسا، أين تمّ تكليفي بمهامي وفق إصابة يدي وظهري، بقيت سبع سنوات متتالية وأنا بفرنسا حينها تعرفت إلى إحدى الفتيات الحاملات للجنسية الفرنسية وتطورت علاقتنا إلى أن اتّفق كلانا على الزواج وتأسيس أسرة، وهو ما كان عليه الأمر. تغيّبت عن جنازة جدتي بسبب عدم تسوية وضعيتي قانونيا لكن قبل حصول ذلك، توفيت جدتي وهي بمثابة أمي فهي من اعتنى بي منذ صغري وسهرت على تربيتي وإطعامي، وأذكر عندما كنت صغيرا كانت تقدم لي الحلوى والنقود باعتبار أنها كانت عاملة بشركة «سوناطراك»، توفيت ولم أستطع حضور جنازتها، إكتفيت بالبكاء عبر الهاتف بعد أن اتّصل الوالد وأخبرني عن موتها، صعقني هذا الخبر وتسبب لي بالكثير من الألم و«الحرقة» خصوصا وأني كنت بعيدا ولم ألمح وجهها لسبع سنوات كاملة، كما أنها أصيبت بمرض الزهايمر لمدة سنة كاملة وعجزت عن الحراك ومعرفة الأشخاص والأشياء، لقد كان موت جدتي محزنا وفراقها لم يكن هيّنا على قلبي، أحسست يومها بنار الغربة خصوصا بعد أن يتمت. بعد مرور الشهور وبسبب تخوفي من فقدان الوالدين وعدم التمكن من رؤيتهما قررت الزواج وتأسيس أسرة صغيرة، بالرغم من تخوفي من عدم نجاح العلاقة بيني وبين خليلتي باعتبار أنها فرنسية الجنسية وتحمل ديانة مخالفة لديانتنا الإسلامية، ولها عادات وتقاليد مغايرة لعاداتنا وتقاليدنا نحن العاصميون، وفكرت مرار وتكرارا في الخطوة الخطيرة التي سأخطوها وبالمجازفة التي لا أعرف نهايتها المجهولة وكل مخاوفي تمحورت حول أبناء صلبي الذين لم ولن أقدر على فراقهم في حالة استحالة التعايش بيني وبين زوجتي، لكن اضطراري للقيام بهذه الخطوة ودعم والداي لي، منحاني القوة لتجاوز كل «الفوبيات» التي عانيت منها، لأتمكن أخيرا من تحديد موعد العرس والزواج مدنيا ببلدية باريس، لكن للأسف لم أفرح كفاية بسبب عدم تقاسم الفرحة ومشاركتها مع إخوتي ووالدي، خصوصا وأني حلمت بعرس تقليدي، ب«الطبابلة والحنة» يحضره كل الأحباب والأهل والخلان. تحسنت الأمور قليلا بعد أن حصلت على وثائق الإقامة بفرنسا، وحصلت بعدها على عقد عمل بالميترو، أين عملت وبجهد لكن تداعيات الأزمة المالية الاقتصادية على الاقتصاد الفرنسي وتأثيرها السلبي على المستوى المعيشي ساهم في تأزم الوضع بفرنسا وحال دون عملي لمدة سنة كاملة، نعم سنة كاملة لم أجد عملا، أحسست بأني عدت إلى درجة الصفر من جديد، وقررت السفر إلى أرض الوطن بعد أن سويت وضعيتي، واتجهت بعدها مباشرة إلى مطار هواري بومدين الدولي، وتمكنت من إجراء مقارنة بين ما كانت عليه البلاد يوم غيابي وما آلت إليه بعد عودتي، إذ لمحت تغييرات شاملة سواء على مستوى الطرقات أو السكنات وحتى المحلات، خلال غيابي تطورت بلادي وازدهرت، فلم تعد العاصمة كما كانت عليه في التسعينيات، تُهت في الطرقات والأحياء بعد أن شيدت أحياء وبنايات جديدة، وفتحت طرق سريعة على غرار الطريق السيار (شرق غرب) الذي أعتبره شخصيا إنجاز ضخم تمّ تجسيده في إطار المخطط الخماسي الذي سطره رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، حتى القرية التي تعيش فيها أسرتي هي الأخرى تغيرت بعد أن استفاد الشباب من الدعم الخاص بالسكن الريفي ليشيد الجميع منازل خاصة بهم، وتدعمت أيضا قريتنا بالمياه بصفة يومية بعد أن كان سكانها يضطرون إلى استخدام الحمير والدلاء لجلبها، إلى جانب الاستفادة من دار للشباب وثانوية جديدة، وهو الشيء الذي رفع من معنوياتي وجعلني أفكر في العودة والإستقرار بوطني الأم والمساهمة في تشييده والنهوض به، إيمانا مني بأن الوطن غال والعيش في جحيمه أحسن بكثير من جنة «الغربة». واستغل محدثنا الفرصة لدعوة الشباب إلى ضرورة استغلال الأوضاع الحالية لبناء الجزائر عوض المهاجرة إلى الدول الأوروبية، خصوصا مع الإمكانيات والتسهيلات المتاحة.