يقول الله تعالى: »وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ«.. كانت هذه الآية والتي هي الآية الوحيدة في القرآن التي ورد بها ذكر السعادة، ورغم أنها الوحيدة، تحدثت عن السعادة، غير أنها سعادة الآخرة في الجنة، وأنها لكذلك دون ريب، ولكن أليست هناك سعادة في الدنيا؟ وغني عن البيان أن الحياة الدنيا لا بد أن تكون بها سعادة قبل الآخرة، وإن لم يذكرها القرآن لفظاً فلا يمكن أن يغفلها معنى، فهناك أمور يذكرها القرآن صراحة، وهناك أمور يذكرها دلالة وإشارة، كأن يذكر مضادها، فنفهم وجود الشيء بذكر عكسه، وكما قيل »وبضدها تتميز الأشياء«. فمثلاً ذكر القرآن كلمة الشقاء، وهي عكس كلمة السعادة، في القرآن، فإذا علمنا أن الشقي هو من يحرم إجابة ربه لدعائه، فيكون السعيد هو من يحظى بإجابة سؤله ودعائه »ولم أكن بدعائك رب شقيا«. وإذا كان عقوق الوالدين شقاء، كانت السعادة في رضائهما وخدمتهما »وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً«. وإذا كان الخروج من جنة الآخرة شقاءً، وكان المكث بها سعادة »فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى« كان الخروج من جنة الدنيا أيضاً شقاء وتعاسة، وإذا كانت جنة الآخرة هي الحياة مع الله ومع الملائكة وعباد الله المكرمين والحور العين والولدان المخلدين وذكر الله وتسبيحه، والتمتع بنعم الله وأرزاقه وأفضاله، فلذلك كانت جنة الحياة الدنيا، في حياة الإنسان مع ربه وذكره وتسبيحه وتقديسه، ومطاردة الشيطان، فنجلب الصفاء للنفس والقلب، لأنه مصدر الوسوسة والقلق والاضطراب، وذلك من عداوته للإنسان وتحفزه إلى الإيقاع به في نار جهنم، وتعهده بذلك أمام الله، غير أن مجانبته والهرب منه دين وسلوك، لا يأتي إلا بالخير والبركة، ولذلك يقول رب العزة: »إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون«. وقبل هذه الآية مباشرة نجد »وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم«. فالقلب الخالي من حظ الشيطان آمن مطمئن تملؤه السكينة »الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب«. وفوق ذلك تأتيهم حظوظهم المعيشية تترى كما يحبون، يغمرهم الرضا، وتنقاد لهم الدنيا، دون أن تصرف قلوبهم عن معايشة الحق »ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون«، »وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً« فتلك هي جنة الدنيا التي من لا يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، فإن كان من أهلها، كان من أهل جنة الآخرة، جعلنا الله من أهل الجنتين، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.