قطرة اللون دوما على حق لا أدري إذا ما كان الفنان التشكيلي حسان شرفي يعرف تلك الجملة الخالدة التي كتبها يوما الفيلسوف الروماني (من رومانيا) الذي عاش حياته في فرنسا دون أن يبحث فيها عن المال و البهرج و الشهرة، عاش زاهدا و مات كذلك، مات بين الكتب المهترئة في قبو بمدينة باريس التي قبل أن يغادرها للأبد استسلم للواقع المرير الذي يطمئن فيه الآخرون إلى تفاهاتهم وكتب قائلا:"لم يعد ممكنا تغيير العالم بالثقافة و الفن. أما السلاح الوحيد ضد الرداءة فهو المعاناة" لكنني أعرف جيدا من خلال معاشرتي للرجل و تتبع خطواته بأن به جنون الثورة على السائد من السلوكيات و المنتوج التشكيلي. حيويته المفرطة تدفعه دوما إلى اتهام الكلمات بالعجز رغم قدرته الفائقة على اختيار اقدرها على التعبير في كل الحالات و التي يستعيض عنها في كثير من الحالات بالضحكة الآثمة التي تقول السخرية بإبداع خلاق. عبد السلام يخلف / جامعة قسنطينة أي المعارض تستهويه؟ حسان شرفي فنان خفيف الروح، يأتي و يرحل مثل الظل ثم أنه في الغالب يأبى الحديث عن الفن، عن فنه الذي يمارسه بكل حب و حرية و كأنه يطبق حرفيا تلك المقولة التي أطلقها أحد الفلاسفة يوما:"الفنان الحقيقي يتحاور مع لوحاته أما الفنان الكاذب فيتحاور مع الجمهور". يفضل حسان دوما المعارض الفنية الفردية التي تسمح له بقول كلمته و التعبير عن مواقفه بكل الأشكال و الألوان التي يرغب فيها، و التي تمنحه فرصة قول ذاته دون الاختلاط مع الجماعة. يرى بأن المعارض الجماعية هي نقيض الموقف الفني و عكس الإبداع الأصيل. هل يمكن الحديث عن مسيرة فنان بإتباع المراحل التاريخية كرونولوجيا؟ البداهة تقول أنه من الخطأ فعل ذلك خاصة في مجال الفنون التشكيلية أين يحتمل أن نخطئ الطريق إذا ما نحن قمنا بذلك. فحين تسقط قطرتان أو ثلاثة من الأصباغ التي يستعملها حسان فوق المساحة البيضاء التي هم بالرسم عليها فله الخيار بين أن يمسحها أصلا أو أن يتركها تعبر عن ذاتها، فهي تتحدث حيث هي، أي أنها احتلت المكان الذي كان يجب أن تحتله. أخذته عنوة و رغم أنف الفنان. الفنان الذي يحترم اختيارات القطرات. أين هو الآن من الإبداع؟ إذا ما اطلعنا على اللوحات الأخيرة التي رسمها فإننا سنفهم جيدا و نتعرف على الطرق و التقنيات التي يستعملها في مرسمه من أجل محادثة المساحات البيضاء التي تخيف كل فنان و لكننا في المقابل نجد صعوبة كبيرة في تلمس ما نراه أو الربط بين القطع الصغيرة و الكبيرة، البلاستيكية منها و الحديدية، المستوية منها و ذات الأشكال الغريبة. يرسم خلفية ذات لون واحد ثم يرمي عليها تلك الأشياء بالطريقة التي تختارها تلك الأشياء بحيث لا يملك الفنان نظرة عن الصورة النهائية التي سينتهي إليها المشهد و هذا على شاكلة الشاعر الذي يجمع كوكبة من الكلمات التي تحمل نفس الروي أو نفس الموسيقى من طباق و جناس ثم يرمي بها في الهواء و حين السقوط تشكل تلك الكلمات نصا جميلا متناغما له من السحر و يأخذ باللب و يرمي بالقارئ إلى الاندهاش. الغريب في حكاية حسان شرفي هو امتلاكه دوما للتقنيات المتنوعة للتشكيل وقدرته على إيجاد الكلمات و سيطرته الفائقة على استلهام اللحظة و التعبير بشكل ممتع عما يذهب إليه فهو لا يتلكأ و لا يذهب للبحث عن المفردات بل تأتيه بكل متعة و طلاقة. يتكلم عن الفن دوما بالإشارة إلى عالم آخر مقدّما أمثلة من الموسيقى والشعر حتى أن كلمات مثل البيت، الشطر، البلاغة، التناغم، الانسجام، السمفونية، النوتات و غيرها تعود في كل مرة كي تقول شيئا مغايرا تماما لما جاءت من أجله ليس بهدف المراوغة و المخادعة بل بهدف البرهنة و التدليل. حديثه حول الفن مليء بالشعر و هو يقول ذلك مقتديا بمالك حداد الذي كتب يقول: "كل شيء في المرأة شعر و الخسران للجاهلين". سحر المكان و شرعيته طريقة حسان شرفي في الرسم معقدة جدا لكنها بسيطة حد التبسم فهو لا يتورع عن استعمال لوحة قديمة كان رسمها سابقا و أنهى موضوعها فتصبح خلفية للوحة جديدة يهم برسمها و هي تحمل فكرة جديدة ووضع توقيعه في إحدى زواياها بقلمه الملون (و ليس بريشة الطائر التي يأخذها من جناح الطائر بعد أن يرسمه كما يقول الشاعر الفرنسي جاك بريفير، وكما العادة، تلك حكاية أخرى). من قسنطينة إلى غرداية مرورا بمرسيليا، تلك هي الأمكنة التي ساهمت في صناعة ريشة الفنان لكن الأمكنة في النهاية تصبح مجرد عذر نذهب إليه. ما كان لمرسيليا أن تصنع فنانا مثل حسان شرفي لو لم يكن فنانا قبل ذهابه على هناك. "رجال أتوا من بعيد/ رجال أتوا من الحدود الشرقية / لكنهم لم يستفيدوا من عبور الجبال و البحار" هكذا قال الشاعر عن المكان و السفر. الأسماء الكبيرة للعواصم الكبيرة لا تصنع الكتاب و الشعراء و الفنانين الكبار، من لم يكن فيه بذرة من الإبداع و هو في "دشرته" أو مدينته الصغيرة لن يتحول إلى حاو أو ساحر كلمات بمجرد أن يحط قدميه في مطار نيويورك أو لندن أو باريس. تتغير الشؤون النفسية لدى حسان و بذلك تتغير مواقفه من العالم الخارجي و تحضرني هنا جملة كان يرددها "البرعي" أستاذ الاقتصاد السياسي منذ عشرين سنة بالضبط حين كان يقول:"كل شيء يتغير، حتى التغيّر يتغيّر". يكون قد بدأ في رسم لوحة و هو متواجد بمدينة غرداية لكن بمجرد أن يصل إلى قسنطينة و يحاول استكمالها إلا و غير رأيه فيها و في ألوانها لأن الألوان تأخذ معناها في المكان و عمق اللون يأخذ شرعيته من نفسية الفنان لحظة الإبداع، فهل سيلجأ إلى تغييرها؟ هل سيرسم فوقها شيئا جديدا؟ هل سيكب عليها اللون البيض كي تصبح لوحة جديدة ستنتظر في ركن المرسم يومها؟ هناك احتمال. كل شيء ممكن مع حسان. يختار الفنان تقنية للرسم و كذا أداة لإيصال فكرته، مهما يكن فإن الأداة مرتبطة بنوع الفكرة و مداها و المعروف أن الحكاية تبدأ دوما من مساحة بيضاء ناصع لونها "لا شية فيها"، يطليها حسان ثم يبدأ برسم أشكال مختلفة واضعا الألوان الواحد تلو الآخر بطريقة لا يعرفها إلاه، طريقة لا تحترم قاعدة أو قانونا ما عدا تلك التي تخدم الجمال، "الإستيتيك" كما يقول مبتسما. تعرفه الكلمات جيدا فلا تخيبه حين يريدها. يرسم فوق الأشكال ثم يحدد معالمها النهاية كي لا تهرب من أطرها و يكرر نفس التقنية لمرات عديدة و لكنه بمعجزة الإبداع يحصل في كل مرة على نتيجة مغايرة. "لا شيء يشبه الأشياء الأخرى" يؤكد جازما. كل الأشياء مؤقتة اللوحة متاهة مفتوحة على كل الاحتمالات. هنا يخبئ حسان الألوان بمسحة من اللون الأبيض، هناك يزيد من تركز بعضها و ذلك بتدعيم حواف الأشكال بطريقة كبيرة أو جعل الخلفية أكثر غمقا. "ازرق بهيّ، أحمر متعال، مركّز أو موزع". هكذا يتحدث حسان عن الألوان بطريقته كما يتحدث الناس عن وجوه مألوفة أو عن أصدقاء حميمين هو الذي يوظفها في لوحاته بتقنية التنقيط ولكن بانسجام لا متناهي لأن الأشكال ما هي في حد ذاتها سوى مساحة و قد تتحول في لحظة إلى لون لا يلبث أن يختفي. كل الأشياء في اللوحة مؤقتة و هي تشبه في هذا تلك النوتات الموسيقية التي تبقى معلقة في الفضاء في انتظار عين ثاقبة و فكر متنوّر يستقبلها بالقراءة و التأويل. هل اللوحة صفحة للتقسيم الموسيقي؟ كل شيء ممكن مع حسان لأن العالم أعقد مما نرى و العالم الحقيقي ليس ما نراه، ألم يقل كارل ماركس ذات مرة بأن "تصوراتنا للعالم ما هي سوى عالم التصورات"؟ إن لوحات و منحوتات حسان شرفي تشبه تماما كلامه عن الفن فهي عامرة بالحركية و الديناميكية التي تمنح للأشكال لونها و للألوان أشكالها، "إنه نوع من أنواع التعبير أو التأليف الموسيقي" يقول حسان. هناك دوما مركز للاهتمام كما هي الفقرة البارعة في صفحة الكتاب بحيث لا يحبذ فناننا اللوحات المكتظة بالأشكال و التفاصيل غير المتناغمة التي تخلق التشويش و تبقى مفتوحة أمام التأويلات المتعددة وقد تدفع في النهاية بالقارئ إلى الضياع. الفن التشكيلي، الرسم بالنسبة إليه هو جملة من الصور المتناغمة فيما بينها و التي تملك بداية و نهاية، التي تملك تاريخا يستعصي على القراءة الخالية من التمعن الدقيق و التمحيص الثاقب. الرسم في نهاية المشوار مجرد لعبة تطلب منا إيجاد الإشارات و المؤشرات الهادفة بغض النظر عن الطريقة أو التقنية التي يستعملها الإنسان لقراءة العمل الفني و بعيدا عن المسار الأول الذي التقت فيه العين بالعمل الفني و اللحظة التي بدا فيها ذلك الحوار السحري بينهما. حكمة اللجوء للماضي إذا حاولنا التعرف عن قرب على ما يقوم به الفنان حسان شرفي اليوم أو ما يمكن أن ينجزه مستقبلا علينا أولا أن نذهب في رحلة نحو الماضي، ماضي الفنان و مسيرته الإبداعية هو الذي أبدع الأشياء الكثيرة و خيب ظن الكثيرين حين أحدث الدهشة الغريبة بإبداعات غريبة أحيانا. علبة آلة الكمان معلقة فوق الحائط مثل عش حطبي بداخلها علم جزائري وقبعة و صورة للمطربة فيروز و أشياء أخرى، تركيبة أطلق عليها الفنان عنوان "التقسيم القاتل". ها الموسيقى تعود دوما كي تقول أن لا شيء من دونها. ثم ماذا عن أفكاره؟ إنه لا يبحث عنها بل يلتقطها فقط حين تأتيه كما كان يقول بيكاسو. أفكاره تتلخص في جملة الأحاسيس التي تسمح له بمقابلة العالم الذي يحيط به وبالإنصات إلى نبضات اللحظة المطمئنة. "أفكاره؟ كان يجدها في الشارع و لدى الناس" يقول مالك حداد لأن الأفكار هي وقود الإبداع. الفنان حسان مفتوح على كل التجارب و لذلك فهو لا يتهرب من شيء و لا تقنية فنية إلا و جربها و كل ما يراه الآخرون مقدسا أو ممجدا إلا و صنع منه حسان قطعة فنية، فكرة، مفهوما جماليا ينقله بعدها للآخرين. إنه يبدع في ذلك حد الدهشة. "يمكن أن نطلق على ما أقوم به تسمية التعبيري التجريدي (l'expressionnisme abstrait)" يقول حسان "و إذا ما كانت هناك رسالة في الفن الذي أنتجه فهي دوما رسالة جمالية". حين نقف أمام لوحات حسان شرفي وكأننا داخل قاعة نستمع إلى فرقة موسيقية تعزف إحدى السنفونيات، فلن نكون بصدد البحث عن الأفكار بقدر ما نكون مبتهجين و منتشين أمام فعالية الأحاسيس التي تبعثها و تعبث بها الموسيقى.