لستُ تاجرًا حتى أكتب جنسا أدبيا بناء على انتعاشه في السوق في هذا الحوار، يتحدث الكاتب عبد الرزاق بوكبة ل»كراس الثقافة»، عن مجموعته القصصية الجديدة «كفنٌ للموت»، الصادرة حديثًا عن منشورات دار العين في القاهرة. كما يتحدث عن عودته لفن القصة القصيرة بعد سنوات اشتغل فيها على تجارب كتابية مختلفة، من: الرواية والشعر، إلى أدب الرحلة والمقال الثقافي، إلى الزجل. ودافع بوكبة عن القصة القصيرة، وذهب إلى القول أن «الحكم عليها بكونها تراجعت كجنس أدبي بالمقارنة مع أجناس أخرى يحتاج إلى مراجعة وتثبت، فهناك أكثر من مؤشر يقول العكس تمامًا». من جهة أخرى يتحدث الكاتب عن ضرورة الوعي بطبيعة اللغة المستعملة، والتي يقول عنها: «يجب أن تكون منسجمة مع طبيعة الموضوع والحالة». بوكبة يرى أيضا أن القصة القصيرة، كانت أنسبَ الأجناس الأدبية للقبض على الحالة التي عاشها والتي كان يسيطر عليه فيها الإحساس بالموت، خلال سنوات الأزمة. ولهذا جاءت مجموعته «كفنٌ للموت» التي توسعت على مدار 133 صفحة، حافلة بالموت: موضوعا، وثيمة، وحضورا، وسياقا. ومع كثافة الموت وانزياحاته في قصصه القصيرة، إلا أن المجموعة التي تستحضر كل هذا الزخم من الموت، تحتفي به، الاحتفاء الذي ينتصر للحياة، والذي ينشر ويزرع رغبة الحياة عميقا في النفس رغم تراجيدية الواقع الذي يظل عالقا بين فكي الموت واللاحياة. وبين فكي حالات عبثية وحالات مطفأة في محبرة السواد، وهي حالات تنتهي يائسة من كل شيء، لكنها في القصة/ أو بالأحرى في قصصه تجد لها كوة أمل لتقرع من خلالها ما يمكن من حياة ومن رغبات فيها. حاورته/ نوّارة لحرش بعد روايتين: «جلدة الظل» و»ندبة الهلالي»، وكتاب قصصي: «أجنحة لمزاج الذئب الأبيض»، وكتابين في الرحلة والمقال الثقافي: «عطش الساقية» و»نيوتن يصعد إلى التفاحة»، وأربعة دواوين شعرية وزجلية: «من دسّ خفّ سيبويه في الرمل؟» و»يبلل ريق الماء» و»الثلجنار» و»وحم أعلى المجاز»، قلمك يعود للقصة، لماذا القصة القصيرة الآن، في وقت تشهد فيه تراجعا ملحوظا أمام الرواية والشعر؟ عبد الرزاق بوكبة: لا أكتب جنسًا أدبيًا معينًّا أو أزهد فيه، بناءً على انتعاش سوقه أو خفوتها، لستُ تاجرًا حتى أراعي هذا المعطى، بل انطلاقًا من قدرته، أثناء لحظة الكتابة، والتي عادة ما تفاجئني مثل الموت، على احتواء أسئلتي وهواجسي ورؤاي وحيرتي وشكي ويقيني وفضولي وجنوني وعقلي وإيماني وزندقتي وأحلامي وأوهامي ويأسي. بالمناسبة: ما جمع كلمة «يأس»؟ إنني أكون مفتوحًا على كلِّ الأجناس قبيل تلك اللحظة، وطبيعتُها هي التي تحدد جنس كتابتها، انطلاقًا من وعي حاد بها وبالكتابة بصفتها فعلًا، الكتابة فعل، تمامًا مثل الذي يجد نفسه أمام عشرات من الأطباق، مع امتلاك حرية الاختيار، لكنه في النهاية يكتفي بسندويتش صغير لأنه مطارد. الحكم على القصة القصيرة بكونها تراجعت كجنس أدبي بالمقارنة مع أجناس أخرى يحتاج إلى مراجعة ما الذي كان يطاردك في تلك الفترة، حتى اخترت نصوصا سردية وامضة؟ عبد الرزاق بوكبة: الموت نفسه، هل تريدين مني أن أكتب رواية في تلك الأيام، حتى وإن كانت قصيرة، وقد كنت أعيش حالة سيطر علي فيها الإحساس بالموت؟ لقد كان يقاسمني السرير والصحن والكأس والمركبة والكتاب والطريق، فكنت أودّع أسرتي، وأنا خارج إلى حاجةٍ ما، كأنني لن أعود أبدًا، وكان علي أن أجتهد من أجل ألا يُلاحظ أحد ذلك، وهو ما ضاعف من قسوة إحساسي بالموت، فلم أجد أمامي غير الكتابة، وكانت القصة القصيرة، أنسبَ الأجناس الأدبية للقبض على تلك الحالة. هنا دعيني أقول إن حكمكِ عليها بكونها تراجعت كجنس أدبي، بالمقارنة مع أجناس أخرى، يحتاج إلى مراجعة وتثبت، فهناك أكثر من مؤشر يقول العكس تمامًا، ومن تلك المؤشرات منح جائزة نوبل للقاصة آليس مونرو قبل عامين. هذا عن واقعك الشخصي، هل الواقع العبثي الذي يميز رقعتنا العربية، وما عاشته الجزائر خلال العشرية السوداء، له ضلع في هذا الكم المتراكم من الموت في مجموعة «كفن للموت»، أم كانت رغبتك في استثمار الموت كتيمة واختبارها فنيا وجماليا في الأدب؟ عبد الرزاق بوكبة: لا أستطيع الآن أن أحدّد نسبة الذاتي والعام فيما شكّل دوافعَ لذلك، كما لا أستطيع أن أنفي أن لكل ما قمتِ بذكره دورًا. إننا نعيش مرحلة بات فيها الموت وجبة يومية في حياتنا، وتحول فيها الانتحار إلى خيار يكاد يكون جماعيًا، وهو وضع خلق انزياحاتٍ كثيرة، حتى على مستوى الكوابيس في النوم، ألم تلاحظي أن معظم المنامات بات يهيمن عليها الموت والموتى؟ ومن الطبيعي أن تحصل معظم الانزياحات على مستوى اللغة/ القاموس اليومي، بحكم أنها بيت الكينونة كما يقول هايدغر، وأخطر ما يمكن أن يحدث لنا في هذا المقام، أن نتصالح مع الموت وفاعليه، فيصبح فعلًا طبيعيًا في يومياتنا. لقد وقع تراجع عميق في حقول الدفاع عن حقوق الإنسان، إذ كنا ندافع عن حرية التعبير مثلًا كأولوية، فعدنا إلى مربع الدفاع عن الحق في الحياة. «كفن للموت» قصص تؤبن ما لا يؤبن، هي تحاول أن تنفض غبار الموت عن حيوات وأشخاص، وأحيانا تبرره، أو تقول بأنه الحل الأفضل لأكثر من حالة، وأكثر من مأساة، لكن بشكل ما، المجموعة تنتصر للحياة، وتفرد لها أجنحة الحلم والتمني، والتجدد، مثلا: «صرخة حياة، تخرج من رحم الموت». هل كنت تمارس لعبة «القط والفأر» في شكلها الآخر لعبة «الموت والحياة»؟ عبد الرزاق بوكبة: أرى أن الدفاع عن أبجديات الحياة من طرف الكاتب، مما يعطي لكتاباته مصداقيتَها، فالكتابة ليست جمالياتٍ فقط، بل هي قيم ومواقفُ أيضًا، من المنظور الإنساني لا الأيديولوجي طبعًا. هل تتصورين كاتبًا يمرّ على غريق فلا يمدّ إليه يدَه، ويمضي ليستلقي تحت الشجرة ويكتب نصًّا؟ علينا أن نبذل مزيدًا من المكابدات/ النضالات، من أجل أن يعود الموت إلى خانة الاستنكار والاستهجان والرفض، ومن ذلك أن نكفّ عن تكريس ثنائية القط والفأر هههههههههههه ولو من باب التسلية. الكتابة فعل يجب أن يخضع لوعي حاد بالسياقات المختلفة وإلا باتت مجرد ثرثرات فوق نهر الحياة من جانب آخر، الموت في قصصك حمّال أوجه، حمّال ميتات وحالات. إنه نهايات رمزية في سياقات متعددة، ما الذي قادك إلى هذه التجربة؟، بمعنى آخر، كيف نضج الموت في نصوصك بهذا الشكل؟ عبد الرزاق بوكبة: كُتبتْ التجربة، كما هو مذكور في مقدمة الكتاب، في القطار الرابط بين بيتي ومكتب عملي في الجزائر العاصمة خلال شهر أوت 2014، وبدأتْ بحادثة واقعية شحنتني بطبيعة الفكرة والأسلوب واللغة المستعملة، هي أنني رأيت في القطار كهلًا سقط مغشيًا عليه، وكنت ممّن حملوه إلى المستشفى في المحطة الموالية للقطار، وممن شهدوا على أن الطبيب أعلن موته، وهو ما أحالني على حالة تأمّل وحزن عميقين. بعد أيام قليلة، وأنا في القطار نفسِه، رأيت الشخصَ نفسَه يجلس قبالتي، ممّا خلق فيَّ حالة تأمل وفرح غذتني بإيمان مضاعف بسلطة الحياة بالمقارنة مع سلطة الموت. من هنا، كان بطلا المجموعة الزبير بن نجمة وسارة الأشهب يموت أحدهما أو كلاهما في كل قصة، وينبعثان في أخرى مثل طائر العنقاء، كنوع من قتل الموت نفسه، وهذه الرؤية هي التي أملت عنوان التجربة الذي يعني تكفين الموت. المجموعة جاءت بلغة مقتصدة، متقشفة، وبمستويات فنية متفاوتة، يتقاطع فيها السرد مع الشعر، في أغلب القصص، كأنك كنت حريصا في هذا العمل على استثمار شعريتك وسرديتك في آن؟ عبد الرزاق بوكبة: قلت إن الكتابة فعل يجب أن يخضع لوعي حاد بالسياقات المختلفة، وإلا باتت مجرد ثرثرات فوق نهر الحياة، ومن ذلك، الوعيُ بطبيعة اللغة المستعملة، والتي يجب أن تكون منسجمة مع طبيعة الموضوع والحالة. فالموت، بالإضافة إلى كونه حالة وجودية مثيرة للتأمل، هو حالة وجدانية عميقة، وهو المعطى الذي أملى جرعة شعرية في هذه النصوص، وعليه، فقد كان ذلك انسجامًا مع طبيعة الثيمة، لا مع خلفيتي الشعرية. تجربة موغلة في التجريب، كأنها تؤسس لكتابة مختلفة مستقبلا، ولرواية قادمة لا تشبه سابقاتها. هل ننتظر أعمالا بهذا الشكل التجريبي الآخذ في التجدد والتجديد؟ عبد الرزاق بوكبة: حين سقط الكهل مغشيًا عليه بين يدي في القطار، وأوصلناه إلى المستشفى، بات خاضعًا لمنطق مختلف يؤطره وعي الطبيب، وأنا لست مطالبًا بأن أكتب بوعي الطبيب، بل بوعي المغشي عليه الذي لا يمارس فعل السقوط وفق وصفة جاهزة. الكتابة عندي هي وعي باللاوعي، من هنا يكون التجريب وظيفيًا وله ثماره الجمالية. المجموعة تتماهى مع مجموعة «أجنحة لمزاج الذئب الأبيض» الصادرة العام 2008، هل يعني هذا أنك لم تفرغ بعد من «أجنحة المزاج»، وأن «كفن للموت» جاء ليكملها قليلا؟ عبد الرزاق بوكبة: اشتركتا في كونهما اشتغلتا على الشخوص أنفسهم في النصوص كلها، واختلفتا في كون الأولى اشتغلت على أكثر من ثيمة، بينما اقتصرت الثانية على ثيمة الموت، وكلتاهما تشكلان ورشة قصصية سأبقيها مفتوحة إلى أن يحين ما يدعو، بمنطق الكتابة، إلى إغلاقها. عملك الجديد طبع في مصر، في طبعة مشرقية. هل هي بداية لوجهة جديدة لكتاباتك وكتبك القادمة؟ أم هي تجربة وفقط؟ عبد الرزاق بوكبة: سأتعامل مع كل ناشر، في الجزائر أو في الخارج، يؤمن بتجربتي ويثمنها ويسوقها ولا يراني مجرد فرصة مالية. ماذا بعد «كفن للموت»، هل من تجربة مغايرة؟ عبد الرزاق بوكبة: لدي تجربة زجلية جاهزة، اشتغلتُ فيها على ثيمة الجنون/ لهبال، من خلال صداقةٍ ربطتني بإحدى المهبولات في الجزائر العاصمة، وأخوض تجربة في إطار «أدب البيت»، مستثمرًا كوني أعيش تجربةَ أبوّةٍ عميقة، فيها كثير من الطفولة والشغف والذاكرة.