تحديت المحافظين والإقصاء وتغنيت بقسنطينة يؤكد مطرب الأغنية الشعبية ابن مدينة قسنطينة محمد حمدي، أنه يتحدى جماعة المحافظين ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على الفن القسنطيني بصفة عامة، و المالوف على وجه الخصوص، كما واجه ما أسماه بإقصاء محافظة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، بأن تتغنى بحبيبته المتربعة على عرش الصخر العتيق عبر العصور، مذكرا بتاريخها ومشايخها ، ليترك رغم كل ذلك بصمته قبل أن تنطفئ الأضواء وتسدل الستائر على فعاليات عاصمة الثقافة العربية، من إصدار ألبوم "قسنطينة نارها قدات" الذي صدر مؤخرا. عن هذا الإصدار وعن مشوار الفنان وقصته مع الفن الشعبي وأهم المحطات في حياته الفنية، فتح محمد حمدي قلبه للنصر، وكشف عن سر عشقه لقسنطينة وتحوله من المالوف إلى الشعبي، بعدما تتلمذ على يد الشيخ عبد القادر تومي... *أولا حدثنا عن آخر إصداراتك الفنية وقصتك مع محافظة عاصمة الثقافة العربية؟ آخر إصداراتي ألبوم نزل إلى السوق يوم 31 جانفي 2015، بعد سنة من العمل الجاد داخل وخارج استوديوهات التسجيل، وهو الألبوم الذي تغنيت فيه بقسنطينة، وهو عمل مشترك مع الشاعر نور الدين درويش كانت بدايته في أواخر سنة 2014، وبعد إلحاح من أصدقاء وأحباب ومعجبين، بمناسبة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية. القصيدة كتبها الشاعر نور الدين درويش في ظرف قياسي، وبتوفيق من الله تمكنت من تلحينها وأدائها كذلك في مدة قصيرة، سجلنا الشاهد الأول لها بإذاعة قسنطينة، حيث كانت تبث مقطعا منها يوميا تقريبا، وأحيانا كل الأغنية التي اخترنا لها عنوان "قسنطينة نارها قدات"، وكنا نأمل في أن تأخذ محافظة التظاهرة عملنا هذا بعين الاعتبار، لكن للأسف تفاجآنا بالإقصاء التام. *ماذا تقصد بالإقصاء التام؟ تمنينا أن نلقى يد المساعدة من محافظة التظاهرة، على أمل ترك بصمتنا كفنانين من أبناء هذه المدينة العريقة في هذه التظاهرة الكبيرة، على أساس تقديم شيء لمدينتنا، لكننا للأسف أقصينا من قبل المحافظة، وبصفة خاصة من دائرة التراث اللامادي، والتي عكفت لاعتبارات عدة على تسجيل التراث المحلي. لست ضد التسجيل وحماية التراث، وهنا أفتح قوسا لأقول بأن التراث القسنطيني في مجال الغناء تم تسجيله في عديد المناسبات، خاصة المالوف الذي أنشئت له مهرجانات وطنية ودولية، وفي كل مرة يعاد تسجيل نفس الأغاني لنفس الفنانين كالشيخ محمد لطاهر الفرقاني والمرحوم عبد المؤمن بن طوبال و أخرى لمن سبقوهم و من أتوا بعدهم، حجتهم في كل مرة المحافظة على التراث، ويعيدون نفس التسجيلات. أعيد وأكرر بأنني لست ضد التراث، لكنني ضد الإقصاء. فالجيل السابق من فناني قسنطينة كانوا يتغنون بالمالوف (النوبة)، والآن يقولون بأن ما يغنى اليوم في قسنطينة يسمى المالوف، لكن هذا خطأ لأن المالوف كما قلت هو النوبة فقط، أي الموسيقى الأندلسية، وما كتب وقتذاك خاص بتلك المرحلة. حاليا وفي عصر التكنولوجيا كل شيء تغير، وحتى هم تغيروا في طريقة لباسهم وأكلهم وكل شيء، لكن كل ما يتعلق بالفن يقولون لك "قف ممنوع اللمس"، وإذا كانت هذه سيطرة المحافظين فلماذا نحن اليوم لا نلبس لباسهم ولا نسكن مساكنهم (ديار عرب) بالسيدة و السويقة وسيدي الجليس؟...كل هذا جعلني أغير وجهتي إلى الفن الشعبي. *إذا المحافظون هم من دفعوا بك إلى الأغنية الشعبية؟ لا ليس هذا فقط، في الفن الشعبي وجدت راحتي كما وجدت المجال أوسع ومفتوح للإبداع وحرية التعبير، وهنا أعود إلى أغنية "قسنطينة نارها قدات"، والتي تناول فيها الشاعر نور الدين درويش قسنطينة من الناحية التاريخية، خاصة منذ عهد الأتراك، مرورا بالفترة الاستعمارية، مذكرا بأسماء تاريخية كرائد النهضة الشيخ عبد الحميد ابن باديس، وأسماء ثورية بارزة، وأخرى فنية كالحاج محمد الطاهر الفرقاني، الشيخ التومي رحمه الله... ثم عرج على أهم الأحياء العتيقة، كما ذكر عادات وتقاليد المدينة بأدق التفاصيل، من خلال ذكر الصينية القسنطينية وأهم الحلويات المشهورة. *نعود إلى المحافظين وسياسة التراث ممنوع اللمس. هل معنى هذا أنكم مع مواصلة تسجيل التراث ووضعه في المتحف، أم أنكم مع التطور وإدخال التقنيات الجديدة المعاصرة؟ يمكنني أن ألخص هذه الوضعية في مثال بسيط، من خلال اعتبار المالوف كقطار فني جاء من بعيد ووصل إلى محطتنا سنة 2015، فهل يعقل أن يتوقف بهذه المحطة دون أن ينزل أو يحمل ركابا آخرين؟. شخصيا أرفض أن أكون جسر عبور، لا بد أن نترك بصمتنا ونقدم الإضافة التي هي في متناولنا، على غرار الأغنية التي قدمتها بخصوص قسنطينة، وهنا أتحدى أي كان يؤكد وجود موشح أو زجل يتغنى بقسنطينة، قد تجد ذلك في العروبي أو المحجوز، ولكن ليس في المالوف. يجب التأكيد على أنه لا يوجد فنانون من جيلنا يتمسكون بالتراث وكأنه قرآن منزل، هناك من يريد أن يبدع، وكمثال على ذلك القصيدة التي قدمناها. * تغنيت بقسنطينة ، لكن التسجيل تم بالعاصمة؟. في الحقيقة يوجد استوديو بقسنطينة لصاحبه العربي بن حسين، إلا أنه محجوز طيلة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، وهو ما اضطرنا للتنقل إلى الجزائر العاصمة، وأخذنا على عاتقنا كل النفقات والمصاريف الخاصة بالإعداد والإخراج والتسويق، وبالمناسبة أتقدم بالشكر الجزيل للشاعر نور الدين درويش، الذي لم يكتف بالكلمات بل ساعدني ماديا كذلك، والفنان عبد الحكيم بوعزيز صاحب أستوديو لميس، الذي ساعدني على إخراج الألبوم ونزوله إلى السوق. * تتحدث بمرارة عن عاصمة الثقافة هل كنت الوحيد الذي أقصي من التظاهرة؟ لست الفنان القسنطيني الوحيد الذي شمله إقصاء المحافظة، بل مس كل مطربي الفن الشعبي، سواء تعلق الأمر بالتسجيل أو المشاركة في مختلف الأنشطة وإحياء السهرات، كما أن هناك فئة من مطربي المالوف تم إقصاؤها كذلك. *نعود إلى بداية مشوارك الفني وأهم المحطات التي ميزته؟ في الحقيقة أنا ابن المالوف، والبداية كانت خلال السبعينيات. الوالد رحمه الله كان من عشاق الموسيقى الأندلسية، وهو ما جعلني أتأثر بهذا النوع. تكونت على يد الفقيد الشيخ عبد القادر تومي لمدة طويلة. كنا مجموعة كبيرة في نفس القسم، على غرار عبد الحكيم بوعزيز، ناصر مغواش، العربي غزال، جمال العكي من قالمة، لوادفل، بوسميد وبوضياف والقائمة طويلة. كما درست بالمعهد البلدي للموسيقى،و وجدت مساعدة من عميد الأغنية الشعبية عبد الله قطاف لما تحولت إلى الشعبي، لأنني لم أجد ضالتي، كما لم أجد الحرية التامة بسبب مجموعة المحافظين الذين لا يتركونك تبدع، ويجبرونك على إعادة أغاني القدامى، أما الشعبي فقد وجدت فيه المجال مفتوحا وواسعا من ناحية الكلمة والأغراض، ولأنني من محبي الإبداع والبحث، فقد اكتشفت بأن مجال الكلمة في الفن الشعبي أوسع، بدليل أن القصائد كلها كلام راق، لفحول الشعر الملحون المعروفين على الصعيد الوطني، على غرار سيدي لخضر بن خلوف في المديح، المنداسي، بن مسايب، بن سهلة، بن قيطون والقائمة طويلة، ومن خارج الوطن الشيخ عبد العزيز المغراوي، الغرابلي، التهامي وبن سليمان... الشعبي نجد فيه الكلمة الراقية وأغراض شتى كالترغيب والترهيب، الحكمة، الصوفية والشوق إلى مكة، التوحيد... وحتى الغزل عفيف، لكن في المقابل المالوف يتغنى بالجواري، وبالمدان وبالخلاعة. الحديث عن الإقصاء لا يجب أن ينسينا الاعتراف بالجميل. هناك من ساعدني كمدير قصر الثقافة مالك حداد، مديرية الثقافة، لجنة الحفلات للمجلس الشعبي البلدي، جمعيات ورؤساء جمعيات، على غرار أحمد بن خلاف ورشيد بوطاس، دون أن أنسى جريدة النصر التي تبقى منبر كل الفنانين المقصيين والنشطين، وإذاعة سيرتا كذلك. أريد أن أضيف كلمة لو سمحتم. *تفضل؟ الشعبي في قسنطينة لم يبدأ مع حمدي، بل هو حقيقة فرضها الواقع، والدليل أن جيلنا هو الجيل الثالث. الجيل الأول خلال الثلاثينيات والأربعينيات، نذكر منهم العربي زروالة، الشريف مركوش، الشهيد بوجمعة بادوي، ومحمد براشي، وقبل أسابيع فقدنا أحد أعمدة الفن الشعبي مولود كراشة، أما من جاؤوا بعدهم فهو جيل عمار بوالحبيب، عومار بن دراج، دحمان بوديدة، صالح فيلالي و حمودي بن حمود، الأخير الذي تحول من الشعبي إلى المالوف، أما جيل اليوم فيمثله محمد بوديدة، طارق ديفلي، فيصل لغرابة، مختار بن زيادة، سليم شعيب، دون أن ننسى رمز الفن الشعبي هنا بقسنطينة نذير بودة، الذي كان همزة وصل ما بين قسنطينةوالجزائر العاصمة وكل المدن الأخرى.