نار «الطابونة» أفقدتهن أنوثتهن التهمتهن ألسنة نيران «الطابونة» في طفولتهن المبكرة وبلغن زهرة العمر وهن فاقدات لرموز أنوثتهن، يعانين من تشوهات وآثار جسدية عميقة وآلام نفسية أعمق، في مجتمع قاس يركز على المظاهر ولا يبالي بجمال الروح والجوهر. إنهن يرقدن الآن بمصلحة الجراحة البلاستيكية بالمستشفى الجامعي بن باديس بقسنطينة حيث يخضعن لسلسلة من العمليات الجراحية على أمل تقويم وظائف أعضائهن المصابة، وترقيع أنسجتهن الممزقة والمشوهة.. خاصة على مستوى الصدور بعد أن انصهرت أثداؤهن.. جميعهن يتسلحن بالصبر والدعاء ويحلمن بمظهر مقبول يكون تأشيرتهن المؤجلة لعالم الحب والزواج والانجاب والأمومة والاندماج في المجتمع بعد أن وضعن طويلا في خانة المهمشات المنبوذات و»المحقورات» من قبل الكثيرين. التقت «النصر» بعينة من هؤلاء الفتيات بمصلحة الجراحة البلاستيكية، فكانت هذه الاطلالة على معاناتهن، آلامهن، وآمالهن. سلسبيل: رهينة اليتم والفقر وضياع رمز الأنوثة لم يمض على مغادرتها قاعة العمليات سوى ساعة تقريبا من الزمن، كانت شاحبة وعلامات التعب والحزن جلية على ملامحها السمراء.. لكنها أصرت على أن تنقل فصول معاناتها الطويلة لقراء «النصر» من خلال هذه الصرخة: «فلنقل أن اسمي سلسبيل لأنني أحب كثيرا هذا الاسم، أقيم مع أفراد أسرتي ببلدية زيغود يوسف .. أنا رهينة اليتم والفقر والتشوهات وظلم المجتمع وقسوته دون أن أقترف أي ذنب أو جريمة. كنت في السادسة من عمري وكنا في فصل الشتاء والصقيع. اقتربت من موقد الطابونة المتعدد الاستخدامات في بيتنا الفقير بحثا عن بعض الدفء.. اعترتني قشعريرة مفاجئة ، فرفعت فستاني لأتدفأ أكثر... فإذا بألسنة النار تحرق أطراف فستاني وأطرافي السفلى وتمتد إلى بطني وصدري وذراعي... تحولت إلى شبه كرة ملتهبة تصرخ من شدة الذهول والهلع والألم. سمعني أخي، فحمل دلو ماء وسكبه علي ثم استنجد بباقي أفراد العائلة... أتذكر جيدا ذلك الكابوس المرعب، نقلوني إلى أقرب مستشفى في حالة يرثى لها. كانت حروقي بليغة من الدرجة الثالثة وأعتقد الكثيرون أنني سأموت، لكنني نجوت وعشت شكلا آخر من الموت وأنا على قيد الحياة. مكثت بمصلحة طب الأطفال أكثر من ستة أشهر، وحرمت من فرحة دخول المدرسة مع أقراني... وليت الأمر اقتصر على ذلك، عندما تم تسجلي في الموسم الموالي وأنا في السابعة من عمري أعاني من تشوهات في كامل أنحاء جسمي خاصة في البطن والصدر والأطراف كانت تحاصرني نظرات الشفقة أحيانا، ونظرات الاشمئزاز و»الحقرة» في معظم الأحيان وكان يغمى علي في القسم، فاكتشف الأطباء أنني أعاني من مرض عصبي. لم أستطع تحمل أجواء المدرسة وآلامي التي كانت تتضاعف عندما يناديني زملائي: «المحروقة»، فتوقفت عن الدراسة وانطويت على نفسي. وعندما تجاوزت الطفولة أصبحت المرآة عدوتي فعلى صفحتها أرى فتاة نجا وجهها وحده من ألسنة اللهب وغزت التشوهات والإنكماشات والتورمات وآثار الحريق كامل جسدها. كبرت وهي لا تملك سوى قطعة جلد متورمة مكان الثدي الأيمن ونتوء بغيض مكان الثدي الأيسر، لكن النار لم تحرق مشاعرها الأنثوية وأحلامها. كأي فتاة عادية كنت ولازلت أحلم بالحب والزواج والأمومة وكلما حاولت التقرب من شاب يعجبني ينفر مني وينسحب من حياتي بسرعة... بلغت ال27 دون أن يتقدم أحد لخطبتي. وجهني أحد الأطباء الى مستشفى قسنطينة، عندما قصدته لعلاج آلام حادة ببطني تتضاعف كلما تناولت الطعام بسبب تمدد ببطني تتضاعفكلما تناولت الطعام بسبب تمدد جلدتي المحترق... خضعت الى عملية زرع للجلد في منطقة الصدر في سبتمبر الماضي والثانية اليوم في البطن، ولن استسلم الى أن تتحسن حالتي واسترجاع ولو بعض الخصائص الأنثوية لدى الفتيات في سني..ثقتي كبيرة في الطب والجراحة البلاستيكية». أحلام: لم أتحمل العيش بثدي واحد... إبنة تبسة أحلام ذات ال 28 ربيعا، ضحية أخرى للطابونة، حضرت إلى مصلحة الجراحة البلاستيكية منذ حوالي شهرين على أمل استرجاع التوافق والإنسجام بين الجانب الأيمن السليم نسبيا من جسمها والأيسر المصاب أو على الأقل ترميم وترقيع التشوهات أو التقليص منها، قالت وقد اجتاحت مسحة خجل ملامحها الحزينة والجميلة وانهمرت دموعها: «كنت طفلة في السادسة من عمرها تستعد للدخول لأول مرة إلى المدرسة ولم أكن أعلم أن اللعب قرب الطابونة سيكلفني كل هذه المعاناة، لقد دفعني أخي الأكبر، فانسكب وعاء مملوء بالماء كان يغلي فوق الطابونة على الجهة اليسرى من جسدي، فانصهر جزء من صدري وبطني بنسبة 100%كما قال الأطباء آنذاك...نقلت على جناح السرعة للمستشفى ومكثت هناك ثلاثة أشهر، ومنعتني ظروف قاهرة بعد ذلك من الدخول إلى المدرسة فقدت أبي ومرضت أمي، وتحملت منذ الصغر مسؤولية القيام بكافة أشغال البيت. حالتنا المادية المتدهورة منعتني من مجرد التفكير في علاج آثار الحريق أصبحت فتاة يافعة، يبدو مظهرها الخارجي عاديا لكنها في الواقع لا تملك سوى ثدي واحد، بعد أن أنصهر الجزء الأيسر من جسمها وأصبح بؤرة للتشوهات والآثار...وصفي من طرف أقاربي وجيراني ومعارفي بأنني «مريضة» يؤلمني ويحرجني أكثر من الحادث الذي تعرضت له في طفولتي الكثير من الشبان لم يبالوا بما يقال عن «مرضي» لأنني كنت أبدو عادية، وتقدموا لخطبتي، فرفضتهم جميعا..حتى قريبي الذي أحببته أكثر من نفسي رفضته حتى لا يشعر بالندم عندما يكتشف الحقيقة عارية، صارخة بعد الزواج فأنا لست بحاجة إلى عمليات ترقيع وترميم لأعيش كباقي البشر..شجعتني أمي وأخواتي للقدوم إلى مصلحة الجراحة البلاستيكية، وعندما وجدت هنا حالات كثيرة أخطر من حالتي، كبر أملي في تحسين مظهري. كل أحلامي ومشاريعي بدءا بمحاربة الجهل في صفوف محو الأمية والزواج والانجاب والأمومة والاستقرار مؤجلة إلى ما بعد الانتهاء من العلاج» أسماء: المهم أن أعود لمعهد البيولوجيا كانت ممددة على سريرها بنفس المصلحة التي قدمت إليها منذ حوالي شهرين ونصف، استقبلتنا بابتسامة عريضة، وبدأت تحكي قصتها مع الطابونة والألم: «أنا اسماء، طالبة جامعية في ال 21 من عمري، أدرس أو بالأحرى كنت أدرس، البيولوجيا بجامعة تبسة... كان عمري سنة واحدة، وككل الأطفال الصغار كنت كثيرة الحركة وأثناء لعبي أمام الطابونة التي كان فوقها إناء ماء، تعثرت قدمي وانسكب على الماء المغلي.. هذا ما قاله لي أهلي عندما كبرت لأنني لا أتذكر الحادث في حين لازلت أدفع فواتير اللعب أمام النار من عافيتي وراحتي ودراستي وكل حيائي، مكثت شهورا بمستشفى الونزة ومستشفى عنابة وعندما بدأت اكتشف جسمي وجدته لا يشبه أجسام أخوتي... آثار الاحتراق وانكماشات جلدية كثيرة بدت جلية على الجانب الأيمن من جسمي على وجه الخصوص، والأكثر تضررا مناطق الصدر والذراع والفخذ والساق. قررت أن أتناىسى كل ذلك وساعدتني كثيرا عائلتي، فلا أحد ممن حولي كان يتحدث عن الحادث أو حتى يلمح إليه فلم أشعر بالنقص أو اية عقدة نفسية طيلة المراحل الأولى من دراستي التي كنت اعشقها حتى النخاع وارتديت الحجاب في المرحلة الثانوية، وعندما وصلت إلى الثالثة ثانوي صادفتني أول مشكلة لها علاقة بالحادث... أدى تمدد جلدي الأيمن المنكمش إلى تمزقه ثم تعفنه وعانيت من آلام لا تحتمل... قاومتها بشجاعة إلى أن اجتزت البكالوريا ودخلت إلى الجامعة.. درست حوالي ثلاثة أشهر بمعهد البيولوجيا ثم تدهورت حالتي، فوجهني الطبيب إلى مصلحة الجراحة البلاستيكية بهذا المستشفى، خضعت لعمليتين من أجل تقويم ساقي والبقية تأتي.. ثقتي كبيرة بالطاقم الطبي الجراحي.. المهم أن أشفى واعود لدراستي. آسيا: لسنا «متمارضات» ولا مهوسات بالتجميل إنها إطار سام بمؤسسة وطنية، ماكثة بنفس المصلحة منذ أكثر من 6 أشهر من أجل الخضوع لمجموعة من العمليات الجراحية التقويمية، والترميمية الدقيقة قالت لنا وهي تقاوم الحرج والخجل: «اسمي آسيا في ال 29 من العمر، أنا ضحية الطابونة على غرار الكثير من زميلاتي بهذا الجناح.. كنت في الرابعة من عمري عندما مررت أمامها وهي مشتعلة وكنت أرتدي فستانا من النيلون، فالتهمتني ألسنة اللهب. تم نقلي على جناح السرعة وأنا في حالة يرثى لها الى فرنسا حيث مكثت سنة كاملة للعلاج فقد أصبت بحروق خطيرة من الدرجة الثالثة على مستوى الأطراف والبطن والصدر عندما عدت الى اهلي أحاطوني بكل المحبة والرعاية والدلال، لكن عندما كنت أخرج للعب أو الدراسة صدمت لأن بعض الأطفال يتعمدون مناداتي «شيكولا» لازعاجي وتذكيري بحالتي واللون الداكن الذي اعترى جلدي المحترق انشغلت طويلا بدراستي، وتفوقت فيها لأثبت ذاتي لكن عندما وصلت الى سن الزواج، بدأت جديا أفكر في اجراء عمليات بلاستيكية لتحسين مظهري فانا فتاة فاقدة لرمز الأنوثة والأمومة لدي ثدي واحد سليم، لأن مكان الثدي الثاني التهب بل انصهر..فكيف لي أن أفكر في الحب والزواج والأمومة والرضاعة كبقية بنات جنسي؟ وماذا عن اللآثار المنتشرة في جسدي؟ لم أكن أملك تكاليف العلاج في الخارج، فأجلت الأمر بالرغم من ألمي النفسي وخوفي من المستقبل ودخلت الحياة المهنية وعندما سمعت بهذه المصلحة، استجمعت شجاعتي وحضرت، لازلت ارفض كل عروض الحب والزواج الى أن انتهي من سلسلة العمليات التقويمية. أود ان اتوجه بنداء الى كافة أفراد المجتمع من خلال جريدتكم: لا تحكموا على البشر من خلال مظهرهم الخارجي لا تهمشوا المحروقين والمشوهين وتنفروا منهم.. فكل شخص معرض في أي وقت للحوادث... اصابتنا ليست مرض ولا عيبا ولا خطيئة.. لسنا «متمارضات» ولا باحثات عن التجميل والجمال...نريد فقط التقويم والترميم لنستعيد وظائفنا الطبيعية، وبعض خصائصنا المفقودة». الطبيبة المختصة: النتائج تظهر على المدى المتوسط والطويل رئيسة أطباء المصلحة المشرفة على علاج هذه الحالات البروفيسور /ز.حزمون/ أوضحت من جهتها بأن الطابونة كارثة حقيقية في مجتمعنا وتعتبر السبب الأول في الاصابات بالحروق الخطيرة التي تستدعي اخضاع الضحايا لعمليات تقويمية لاحقا.. والمؤسف-كما قالت- أن 90% من هؤلاء الضحايا معوزات بحاجة الى الدعم المادي الى جانب الدعم الطبي والنفسي الاجتماعي.. وشددت بأن نتائج الجراحة البلاستيكية تظهر على المدى المتوسط والطويل بعد اجراء العدد المناسب من العمليات الدقيقة الناجحة وفق المعايير الطبية العالمية.. الهام.ط