آمنتُ بالهامش وأدركت فلسفته بمعايشتي له ولأهله "عطش السّاقية، تأمّلات عابرة للقار" هو عنوان الكتاب الجديد للكاتب عبد الرّزاق بوكبّة صدر عن دار فيسيرا للنشر وجاء في 350 صفحة، الكتاب يحفل بتجربة 4 سنوات من الإشتغال في حقل الإعلام الثقافي من الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون، ومن تجارب سفريات متعددة في جغرافيات المدن والأمكنة وتأمّلات في تفاصيل وتضاريس الشوراع والوجوه، وتساؤلات مشغولة بالإنسان والمكان والإبداع والهوامش، وقد ضمت صفحاته 5 فصول أو بالأحرى 5 هوامش كما اختار الكاتب أن يسميها وهي هوامش مختلفة السياقات والمعطيات والحساسيات الأدبية والفنية، ضمت مقالات، ونصوص قصصية ومسرحية وحوارات أدبية ورحلات، وكانت الهوامش مبوبة كالتالي: "على هامش الرواية- هامش على هامش الرواية-"، "على هامش القصة- هامش على هامش القصة-"، "على هامش المسرح- هامش على هامش المسرح-"، "على هامش الحوار- هامش على هامش الحوار-"، "على هامش الحياة- هامش على هامش الحياة". حاورته/ نوّارة لحرش ويعد هذا الكتاب هو الرابع لبوكبّة بعد: "من دس خف سيبويه في الرمل؟" الصادر عن منشورات المكتبة الوطنية الجزائرية ودار البرزخ عام 2004، "أجنحة لمزاج الذئب الأبيض" الصادر عام 2008 عن منشورات ألفا، "جلدة الظل من قال للشمعة: أف" الصادر في 2009 عن منشورات ألفا أيضا. في هذا الحوار يتحدث بوكبّة عن عطش السّاقية وعن تأملاته العابرة للقار وعن أجواء هذه الهوامش التي اختار أن يحتفي بها في كتاب وأن يخلدها بالكتابة. كتابك الأخير "عطش الساقية.. تأملات عابرة للقار" الصادر عن منشورات فيسيرا والذي جاء في 350 صفحة وشمل تجربة 4 سنوات من الإعلام الثقافي والمقالات والسفريات، هل يمكن وضعه في سياق كتب السيرذاتية التي تتكيء على المسيرة الأدبية، وتستلهم منها أكثر، أو أدب الرحلات والتأملات؟ عبد الرزاق بوكبة: يا إلهي.. لقد أصبحت أخاف سؤال التصنيف هذا، إنه بات يطاردني في كلّ حوار ودردشة ومجلس، حتى أني شرعت أشكّ في مراهنتي على التعامل مع ما أكتب على أنه نصوص وكفى، غير أني أثمّن هذا الشكّ في حدّ ذاته، الشكّ زاد الكاتب الحقيقي في بريّة الكتابة، إنه يشكّ في لحظة الانطلاق، وفي لحظة الوصول، وأثناء المسير، وحتى داخل لحظة النوم، مشْبها ربّان باخرة قبل اكتشاف البوصلة، والكاتب الذي يشبه قائد طائرة تتحرّك وفق تعليمات رادار دقيق ليس إلا آلة بشرية يمكن تعويضها، كل ما يمكن تعويضه ليس جوهرا، الطيار الفعلي هو الذي يتصرّف بعفوية حين تفقد طائرته اتصالها بالرّادار، في تلك اللحظة بالذات إما أن يستحق لقبه أو لا، وفي تلك اللحظة بالذات لا يهمّه التصنيف بقدر ما تهمّه الحياة، حتى أن الرّكاب يُخلّون بتعليمات الرّكوب والهدوء، وينتفي الفرق بين الدرجة الأولى والثانية وقمرة القيادة، ويتخلى الجميع عن الشكليات من مناصبَ وألقاب مشتركين في مشاعرَ إنسانية واحدة: الخوف والرّجاء، أنا أتموقع في ذلك المفصل بالذات وأكتب، فإن أصرّ قارئ ما، أو ناقد على التصنيف، فليبحث عنه عند غيري. الكتاب يحتوي على عدة لوحات أو فصول، في حين كان من الممكن أن تكون بعض محاوره وفصوله في كتاب منفرد، كالنصوص المسرحية مثلا، فما رأيك، ولماذا هذه الورشة المفتوحة على بلاغات متداخلة، وأجناس أدب مختلفة؟ المشترك بينها جميعا هو حاسّة التأمّل فيما هو ثابت مؤقتا أو أبدا، ومتحوّل مؤقتا أو أبدا، ورصد جماليات تلك المقامات من منظور إنساني صرف باللغة، كنت سأتفهم اندهاشك هذا من تعدّد الأجناس عندي، واستهجان بعضهم لو تعدّدت أدوات التعبير داخل الكتاب نفسه، كأن أخرج من مقام الكاتب إلى مقام المصوّر إلى مقام التشكيلي إلى مقام النحات إلى غيرها من المقامات الفنية، بل حتى لو فعلت ذلك، فإن الاندهاش يُفترض ألا يتأتى من تداخل الأجناس في حدّ ذاته لأن الفنون تملك أصلا قابلية للتحاور فيما بينها، بل من القدرة على خلق جمالية جديدة وواعية بذاتها إذا وُفقتُ في ذلك، وبالتالي يصبح اندهاشا وظيفيا لا يُصادر حق المبدع في التجريب، أعتقد أن التربية الدينية المؤسساتية في الثقافة العربية مع تراكماتها التاريخية جعلت لحظة التلقي خارج الأطر لحظة غير مستوعَبة، بل إنها قد تُخرج صاحبها من الملة عند المتشدّدين، رغم أن الله نفسه لم يرسل رسله إلا ليحرّروا البشر من عبودية الإطار. ركزت وأكدت على تسمية الفصول بالهوامش وهوامش على هوامش أخرى، لماذا هذا التركيز والتأكيد، ما حكايتك مع الهوامش؟، وما المعطى الذي تمنحه سياقات الكتابة والحياة وترى أنك مدين له أو أنه أضاء على هوامشك الذاتية؟ تعوّدنا في ثقافتنا العربية على التعامل مع الهامش من منطلق كونه شارحا للمتن، وبالتالي فهو تابع له، والنظرة إلى التابع من حيث الإجلال غير النظرة إلى المتبوع، ناسين أن هذا الهامش كائن حي في الأصل قد يعمل في غفلة منا على الالتفات إلى ذاته، وتطوير تأملاتها بحثا عن الخلاص، وهو بهذا أقرب إلى روح الثورة والتغيير من المتبوع الذي يركح إلى اليقين دائما، وهي الروح ذاتها التي تعني الفن الحقيقي، إن الاشتغال على الهوامش في الفن لقمة سائغة يتلقفها التاريخ فيمنح صاحبها الخلود، التاريخ لا يحتفي بالفن الذي يحتفي بالسائد، لأن المكرّس لا يصنع تاريخا جديدا، المكرس بارع في إعادة ما تمّ إنتاجه على أنه هو النموذج، لذلك يستعين بشرعية الدين والقبيلة في مواجهة التغيير، وتسفيه أحلام رواده، تأملي الثورات العربية الراهنة جميعَها، فسوف لن تجدي ثورة واحدة انطلقت من مدينة مكرَّسة (سيدي بوزيد ودرعا نموذجا) على يد شريحة مكرسة بمقولات مكرّسة، إن البوعزيزي يا صديقتي أعطى للهامش الذي آمنتُ به في كتاباتي الشرعية الحقيقية، وأنا أدركت هذه الفلسفة بمعايشتي لأمثاله معايشة تقوم على محبة الإنسان، لا على تعالي الكاتب الأرستقراطي الذي كان يراه حثالة، وبمجردّ أن رأى ثورته نجحت وضع صورته مكان صورته في الفايسبوك متناسيا أن التاريخ قاض قد يبدو نائما لكنه يسجلّ كل شيئ. كتاب يقرأ الأمكنة والوجوه والشوارع، يروي سيرة جغرافيات/ مدن زرتها ولامست طقوسها، ومن جهة ينثر سيرة ذات مبدعة تواقة للترحال والكتابة دائما، كيف تقيّم علاقة المبدع فيك بالمدن والوجوه والأمكنة؟ للأماكن أرواح وأسرار تمكث في زواياها المهملة، لذلك فهي لا تتأتى للسطحيين الذين يحكمون على البرتقالة من القشور، لي طقوس خاصّة في تصيّد أسرار الأماكن بمفهوميها الإنساني والربّاني، وعليه فأنا أعيش أربع متع دفعة واحدة: متعة ممارسة الطقس في حدّ ذاته، ومتعة اكتشاف السرّ، ومتعة كتابة ذلك، ثم متعة مشاركة القرّاء المحتملين الذين هم أرواح وأسرار أيضا، إنها متعة عنقودية من دالية الفضول. تأملاتك ورحلاتك العابرة للقار، هل تعني أنك أردت أن تتجاوز هذه المرحلة، أو هذه التجربة بالكتابة، وأنه يجب تجاوز القار والثابت من الأشياء والمراحل بالكتابة المتأملة المستقبلية، وهل الكتابة برأيك دوما متجاوزة؟ التجاوز عند الكاتب الواعي لا يعني العبور إلى المستقبل فقط، بل يقتضي الالتفات إلى الماضي أيضا، ليس لممارسة الحنين، بل لتصحيح الوضعيات الخاطئة لأسلافنا فيه من جهة، ولاصطحاب الصالحين منهم إلى المستقبل من جهة ثانية، هناك أسلاف بفضل حكمتهم العابرة للأزمان خاطبوا المستقبل فيما فكّروا وكتبوا، ومن حقهم علينا أن نعود إليهم لنصطحبهم معنا إلى المستقبل، فلولاهم لم نرث إلا الجثث المحنطة، علما أنني أعني هنا بأسلافي شركائي في النظر إلى طبيعة مفهوم الحياة والفن في الحضارات كلها، انتماء الفنان كوني وإنساني بالضرورة، فالمستقبل لا يقبل لقيطا ولا مغشوشا ولا متقوقعا ولا غبيا. كتابة هوامش/ كتابة تفاصيل في أكثر هواجسها ذاتية وحقية وصدقية، هل تعتبر نفسك من كتاب الهامش رغم تمركزك في العاصمة منذ 2002، وهل تؤمن بثنائية الهامش والمركز؟ لم تعد العاصمة في الوطن العربي كله ذلك المجمّع من الذكاء والجمال والاحتفاء بهما، مثلما كانت قبل الاستقلالات الوطنية وبعيدها بقليل، تونس بغداد القاهرةبيروتدمشقالجزائر العاصمة..، بفعل الترهلات التي ألمّت بها على يد أنظمة حكم تعسفية أجهضت المشاريع الحضارية كلها، ودجّنت الفضاءات الشعبية، ثم أفرغتها من محتواها، خذي الجزائر العاصمة مثلا قبل الاستقلال وبعده، هل هي نفسها من حيث النبض؟، مقهىً وسوقا ومسجدا ومدرسة وناديا وملعبا وحانة وشارعا؟، إن ناديا واحدا قبل الاستقلال مثل نادي الترقي فعل من حيث المساهمة في تشكيل الوعي الديني والفكري، ما لم تفعله وزارة الشؤون الدينة برمتها، وإن مقهى واحدا في باب الواد خلق من الوعي الفني، والحفاظ على الذاكرة الثقافية ما لم تفعله وزارة الثقافة اليوم ب 146 مهرجانا وطنيا ودوليا، إن الحياة تنبض في أدرار والبيّض وتندوف وجانيت وتبسة والأغواط وبجاية لا في الجزائر العاصمة التي لو تتوفر فروع للإدارات المركزية في الولايات الداخلية، وفرص العمل وتحقيق الذات هناك لما زارها اختيارا إلا القليل، ثم إن وسائط الإتصال الجديدة ألغت الحدود معظمَها، فألغت بذلك الوسطاء والوساطات بحيث بات ممكنا لكاتب مبدع أن يصل إلى الأقاصي، وهو يقيم في بلدية نائية، إلا من أبى طبعا، إذ هناك شريحة من المثقفين ترفض أن تحرّر نفسها، حتى أنها تعتبر رضا المدير الولائي للثقافة عنها مكسبا يجلب الارتياح. الكتاب ضم نصين مسرحيين هما "حجْر نجمة" و"عودة العَبّاد" التي سيتم إنتاجها ضمن تظاهرة تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية، وهذا ما يُظهر أن لك علاقة وطيدة وربما قديمة بالمسرح، فهل تُراها تثمر أكثر في مشاريعك القادمة؟ بعد تجربتي في النشاط الثقافي بالمكتبة الوطنية ما بين 2002 و2004، ثم في اتحاد الكتاب إلى نهاية 2006 رأيت في انضمامي إلى المسرح الوطني الجزائري أفقا آخرَ لمواصلة نضالي الثقافي، فقدمت ما قدمت، لكنني وأنا أتواجد فيه ومع فاعليه على اختلاف أجيالهم وجدت نفسي مأخوذا بسحر هذا الفن، فأطلقت العنان لفضولي بمخالطة من يكتب ومن يمثل ومن يُخرج ومن يموسق ومن يضيئ ومن يشاهد على اختلاف حساسياتهم ومستوياتهم، في العاصمة وفي غيرها، بالموازاة مع قراءات مركّزة وواعية، قبل أن أجد الجرأة للكتابة المسرحية التي أرى أنني بدأت أقبض على بعض أسرارها. كأنك تراهن وفي كل كتابتك على اليومي، وتفاصيله بكل حيثياته ومخزوناته وخلفياته ومرجعياته وتراجيدياته وكاريكاروتياته، ما السر في هذا؟ ربما يعود الأمر إلى علاقتي بالموت وبالحياة، فأنا أكتب لأقتل موتي، لم يحدث أن كتبت كتابا وأنا لا أشعر عميقا بأنه سيكون آخرَ كتاب في حياتي، حتى أنني أرسله قبل أن يُطبع إلى أكثر من صديق كيما يجدَ طريقه إلى النشر إن تمكّن الموت مني، لكن بمجرد أن أطبعه حتى يعود ارتباطي بالحياة أقوى من ارتباطي بالموت، إنها لعبة جميلة وعفوية تجعلني لا أجفّ إبداعيا أبدا، بل إنني أعاني كثرة المشاريع في الكتابة مع قلة الوقت، ثم إن التقاط تفاصيل اليومي، ورصدها بالكتابة يمنحها عمرا يخترق الزمن، فيتمّ انتشالها من براثن الموت، الكتابة صراع دائم مع هذا القدر الكبير. لك ذاكرة شعبية وأدبية يقظة تلتقط أدق التفاصيل وتكتبها وتقولها بلغة شفافة وحادة ومشاكسة ومرواغة في آن، وهذا ما كان واضحا في فصول الكتاب، هل لقريتك وقراءاتك فضل على هذه الذاكرة اليقظة المشتعلة؟ لم تستطع لا الجزائر العاصمة، ولا غيرها من المدن الجزائرية، أو غير الجزائرية أن تمنحني ما منحتني قرية أولاد جحيش (الهامش عموما) من مخزون إنساني جعل مني إنسانا قادرا على أن يحاور أيَّ إنسان في أي مكان، بعيدا عن التعصّب للذات، أو إلغاء الآخر، وأنا إذ أعود إلى هذه الذاكرة فلكي أغذي حداثتي بأنساغ إنسانية وجمالية تملك القدرة بها على أن تسافر من غير عقدة إلى أية شرفة في العالم. كلمة تودّ قولها في ختام اللقاء من ساقية الذاكرة أو من ساقية اللحظة؟ أفضّل أن يكون الختام نصا كتبته يوم 12 مايو الجاري بالجزائر العاصمة. مشهد واقعي. أخذتْ مقعَدَها في القطار السّريع/ سريعا أخذ مقعدَه قبالتها/ أخذتْ عيناها تمسحانه من شعره الطويل، إلى حذائه النبيل/ أخذ قلبُه يَعد نفسَه بحرارة تنسيه برودته/ أخذتْ نقالَها مفتعلةً مكالمة ملخّصها "كرهتُ وحدتي يا صديقتي"/ أخذ نقالَه مفتعلا مكالمة ملخّصها "بتُّ مستعدّا يا صديقي"/ أخذت يداها ترتجفان من فرح غامض/ أخذت يدُه ترسم علامة استفهام واضحة على غبار النّافذة. مشهد محلوم. ارتخى جفناها فتخيّلتْ علامةَ الاستفهام فستانَ عرس أبيضَ مُزغرداً، والفتى يتأبّط ذراعَها النشوانَ نحو العربة، هي أجمل من الأميرة كيت، وهو أوسمُ من الأمير وليام. مشهد مُواز. حفنة أطفال يحاذون سكّة القطار معانقين أكياسَهم المخدّرة. مشاهدُ متداخلة. ضاعفَ القطارُ سرعته/ ضاعفتْ عربة الخيال رزانتها/ ضاعف الأطفالُ حجارتهم/ ضاعفتْ عينُ العروس نزيفَها من حجر/ ضاعفتْ يدُ العريس استفهامَها في الهواء من ذهول/ ضاعف الرّاوي صمته/ ضاعف القارئُ صراخَه/ ضاعف اللهُ لعنته للجميع.