تطور مفهوم في الأدب عبر الزمن ليحتضن أفكارا جديدة تتفق ودوره السياسي والاجتماعي، ولا يزال الاختلاف قائما حول ماهية هذا الالتزام أهو التزام تجاه قضايا خارجية ما، أم التزام الأدب تجاه نفسه أولا، إضافة إلى طرح اشكالية التخوف من أن ينال هذا الالتزام خاصة إذا كان ايديولوجيا من جمالية الأدب وانسانيته. البداية كانت بنقطة تحول كبرى عرفها التاريخ العربي مع نكبة فلسطين وتأثير هذه النكبة على الوعي العربي ومن ثم على مفهوم الإبداع والذي تحول عن تقاليده وأساليبه إلى ترسيخ الإستقالة التاريخية والاضراب عن التفكير إلى آفاق جديدة متمثلة في التجريب والبحث ثم ظهر دور التراث كسلاح فعال ضد الرجعية والإمبريالية والصهيونية. ومن هنا تبين أنه على الفن أن يكون نشاطا اجتماعيا وليس مجرد نشاط منعزل. يرى البعض أن المادية التاريخية قد علمت هؤلاء التأثير والتأثر المتبادل بين السياسة والاقتصاد والوعي، في هذه النظرية الديناميكية، للعالم فإن المبدع ليس كائنا منعزلا لكنه مرتبط صميميا بمجتمعه فكما يتعلم المجتمع منه يتعلم هو من مجتمعه. إلتزام بمعاني متعددة
ازداد انتشار مفهوم الإلتزام بالساحة الأ دبية العربية مع صدور المجلات الأدبية المختصة، إضافة الى اكتشاف فلسفة المفكر الفرنسي سارتر الذي هاجم أدب البرج العاجي الذي ينأى بنفسه عن هموم المرحلة. مع ذلك فإن مفهوم الإلتزام الأدبي كما طوره سارتر لم يسلم من النقد داخل الساحة الأدبية العربية إذ اعتبر مفهوما متعدد المعاني وبالتالي فهو غير قادر على حماية نفسه من الاستغلال الايديولوجي والسياسي، كما أن فرض نظرية ما على الأدب هي دائما على حساب المضمون الفني والجمالي لهذا الأدب، زد على ذلك فإن مفهوم مستورد تطور بثقافة غربية ومن أمثلة الإلتزام في الأدب الراحل محمود درويش، الذي رأى بأنه استطاع أن يرقى بقصيدة الحب الى آفاق رمزية جديدة حيث يتحول الافتراق عن الحبيبة والحنين إليها معادلا للحنين الى الأرض، إلا أن درويش نفسه يثور على الفهم السطحي للالتزام الذي حول الكاتب العربي إلى مجرد حاجب ببلاط السلطة إذ يرى الآن بأن الالتزام فني وليس اجتماعيا، وأن النص الشعري الذي يكتبه وإن كان ينبع من الواقع فإنه يتأسس جماليا وليس رهين شروطه الخارجية، أما أدونيس فإنه يرى أن الالتزام الأدبي يتحقق داخل اللغة بتثويرها وإعادة كتابتها.
الأدب الملتزم موقف
يشير الأستاذ محمد ساري، في حديثه ل "المساء" أن ظاهرة الالتزام في الأدب قديمة قدم الأدب والكتابة، ففي العصر الجاهلي نجد أن الشاعر الذي يقف مع قبيلته هو شاعر ملتزم، لتنتشر وتتطور الفكرة وصولا الى سارتر الذي يرى بوجوب إلتزام الأدب مع ذاته مرددا مقولته "انظروا كيف أقول، وليس ماذا أقول" أي دعوة الى ادراك جمالية النص والأدب. في العصر الحديث انتشر الأدب الملتزم خاصة مع النظام الاشتراكي مما تطلب من المبدع أن يلتزم بقضايا المجتمع والشعب عامة، وهي فكرة لم يستصنعها جمع النقاد الذين رأوا أن الأدب الملتزم يلين أويضعف كما حدث مع الشاعر "حسان بن ثابت الذي أصبح شعره لينا أي ضعيفا مقارنة بشعره في الجاهلية رغم التزامه بقضية الإسلام". يرى الأستاذ ساري أنه على الكاتب أن يتخذ موقفا من الأحداث التي تحيط به وأن يلتزم بأدبه لكن دون أن يحول الأدب من خطاب جمالي إلى خطاب سياسي، وكما قال العلامة ابن خلدون، فإن الشعر ديوان العرب بشرط أن ندونه بطريقة جمالية.
الالتزام يساوي قضية
أما الأستاذ والروائي الأستاذ الحبيب السايح، فيرى أن الأدب الملتزم وجد مع وجود الكتابة نفسها، والالتزام بالقضايا الجوهرية التي تمس وجود الانسان وحريته وكرامته، موازاة مع هذا ظهر لنا ما يسمى الأدب الملتزم ايديولوجيا وهنا يفرق محدثنا بين الالتزام بالكتابة كمبدأ ينتصر للإنسان، والالتزام في الكتابة كانتصار لحزب سياسي أوطائفة أوايديولوجيا محصورة في رؤية فلسفية مختلفة. يقول الأستاذ الحبيب السايح "إنه من خلال تجربتي فقد عشت الأمرين معا، ثم مع انهيار المشروع الوطني الديمقراطي وانهيار الخيار الاشتراكي خاصة في الجزائر أعدت النظر في قناعاتي في الأدب الملتزم بالقضية السياسية والإيديولوجية، وصرت أكثر اقترابا في كتاباتي من الإلتزام تجاه مصير الانسان كأي إنسان، هذا يعني أن الكتابة بالنسبة لي أصبحت ملزمة إيّاي بأن أبحث بواسطتها في عمق الأسئلة التي لا يستطيع السياسي أن يطرحها". إن الإلتزام في النهاية هو التزام بنبل الكتابة بحيث تصير هذه الكتابة شهادة على ما يجري في واقع يشوهه التاريخ أوتحرفه السياسة.
الالتزام مضاد حيوي
مهما يكن، يبقى الإلتزام مظهرا مطلوبا في الأدب العربي كما هو الحال مع كل كتاب العالم الذين يتفاعلون مع قضايا مجتمعاتهم متجاوزين الأطر التقليدية للإلتزام الذي يعني فقط الولاء دون موقف يفرضه المبدع بحرية تامة رافضا أية املاءات أوحتى ايحاءات قد تنال من مصداقية إلتزامه. الالتزام في الأدب هو أيضا إلتزام بروح جماليات النص وبمدى الثورات التي تندلع منه محدثه التغيير ومن ثم الإبداع. قد يكون الأدب شهد مرحلة فتور نالت من حضوره، لكنه دائما يعود بقوة لا سيما عند الجمهور الذي يلتفت إليه كلما غشيت عيناه ضبابة الغموض وعجز عن قراءة الحاضر والماضي، وعجز كذلك عن قراءة دواخله التي تعج بالتناقضات والصراع المستمد مما يحدث حوله من تغيرات سريعة لا يستطيع مجاراتها.