إن لم يكن هذا هو الجنون، فماذا يكون؟! منافسة رياضية تضع دولتين شقيقتين على حافة الحرب. خرجت كرة القدم من المستطيل الأخضر، لتستحيل كرة من نار، تلتهم تاريخاً من النضال المشترك بين الشعبين المصري والجزائري. ليس المطلوب التعالي على ظاهرة الولع بتشجيع كرة القدم، فهو ولع يوحد البشرية، ينبع من المناطق المظلمة في النفس، كما ينبع من المناطق المضيئة أيضاً. هي البديل الأكثر إنسانية للتباري القديم مع الأسود، والتصارع الحديث مع الثيران أو بين الديوك، وهي التمثيل الرمزي لكل فجاجة الذكورة، التي استعارت كل مصطلحات التهديف والنصر والهزيمة من الحقل الجنسي. لكنها في الوقت نفسه البديل الأكثر شرفاً وشفافية واستقامة من السياسة؛ حيث اللعب على المكشوف، بالجدارة الشخصية يكون النجم الرياضي، حيث لا وسيط بينه وبين جمهوره من كتبة الخطب ومهندسي التصريحات. اللاعب شبه عار حتى بالمعنى المادي أمام جمهوره، خال من أية زينة إلا موهبته وقوته. ولكن السياسة والبيزنس اللذين لا يتركان ثقافة أو رياضة على حالهما، استطاعا أن يجرا المنافسة الرياضية من مناطق الشفافية إلى أقاليم العتمة، ومن الاعتراف الشريف والحر بالهزيمة إلى التلاعب والطعن من الظهر. رعاة سياسيون ورعاة اقتصاديون، وصحف صفراء وغير ذلك وقنوات تليفزيونية بلا عدد تتوسل إلى المشاهد كي يبقى معها، كل هؤلاء أطلقوا مارد المنافسة، حتى تلخصت كل معاني الوطنية والكرامة في نتيجة مباراة بين فريقين شقيقين، لكن المارد الذي أطلقوه لم يظل تحت السيطرة، وانفلت في كل اتجاه. ائعات عن نعوش عابرة للسماوات بين البلدين وادعاءات باعتداءات غير موثقة، تهيج الخواطر وتزيد كرة النار ضخامة. إشارات غير محتشمة من مشجعة متحمسة تنقلها الكاميرا، تصبح وقوداً للحرب، بينما كان من الواجب اتخاذها دليلاً على تحرر المرأة العربية، التي لم تعد تصرخ "ومعتصماه" خوفاً من خطر السبي؛ بل تبادر إلى ارهاب الرجال! شر البلية يُضحك أحياناً، لكن هذه البلية لم نعرف آخر شرها بعد، ويجب أن نتقيه بالانتباه إلى كل ما حدث حتى الآن. وفي ظني أن أخطر ما أسفرت عنه هذه المواجهة الحمقاء يتمثل في جريمة تجفيف منابع الثقافة واختفاء أو إخفاء الرمز الثقافي مسموع الكلمة، بحيث بات الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج محكوماً بعدد من المذيعين، ليسوا جميعاً من المحترفين المؤهلين مهنياً المسلحين بشيء من مواثيق الشرف الإعلامي، فبعضهم قادم إلى الشاشات بنجوميته في الكرة، يركل اللغة والأخلاق ويشعل ما أمكنه من النيران، لكي يبقى المشاهد معه، ويبقى هو في نوع آخر من الضوء، بعد انحسار ضوء الملاعب. الأمر الآخر، هو خطورة الإنترنت في أيدي شعوب غير مستعدة؛ فهذه الوسيلة التي يفترض أن تكون وسيلة تحرر المتلقي من سطوة الإعلام الرسمي، صارت سلاحاً للعدوان، فقد قامت المدونات الشخصية والفيس بوك واليوتوب بدور مؤسف في التحريض والتنابذ بين شعبين اختلطت دماؤهما في حروب التحرير. وسوف تظل هذه الفتنة قائمة، إذا لم يتكاتف مثقفو البلدين لإطفاء هذا الهوس بين المشجعين المحبطين الذين يبحثون عن نصر بائس بين أقدام اللاعبين، ويضعون شرف قبيلتهم بين ساقي حارس مرمى عزت القمحاوي