عاشق الفن الأصيل الذي يصنع العود ويهديه بالمجان يعمل الحاج محمد بلوادفل في حرفة النجارة منذ نعومة أظافره عندما كان يتردد بدء من سن السادسة على محل والده العتيق الصامد منذ سنة 1930، والكائن بحي السويقة بالمدينة القديمة بقسنطينة ، يفتخر بقضاء ما يقارب سبعين سنة فيه، حيث تعلم من والده الحاج محمود حب المهنة التي أورثه إياها بالإضافة إلى إحدى الصناعات الفنية النادرة ، و هي صناعة و تصليح آلة العود العربي التي يواصل ممارستها من الحين للأخر، تخليدا لذكرى والده الذي كان يصنع العود لأصدقائه الفنانين في المدينة و خارجها ، و يهديهم إياه بدون أي مقابل مادي : لأنه يعتبر "العود ليس له ثمن و أن مكافأته الحقيقية هي عندما يستنطق العود على يد فنان يعرف قيمته الفنية و المعنوية"، كما كان يقول له والده دائما ، الذي كان أيضا من محبي الفن و المستمعين الذواقين للمالوف، حيث كان يتردد على " فنادق " السويقة التي يرتادها الفنانون و المطربون. ويتذكر ابن الحرفي و النجار الشهير بصناعة آلة العود و الذي أورثه بعد وفاته دكانه و تجارته، بالإضافة إلى حبه وولعه بهذه الآلة الموسيقية التي يعتبر أحد صانعيها القلائل في مدينة قسنطينة ، أن والده أهدى آلات عود كثيرة للعديد من الفنانين المعروفين كصديقه الهادي رحماني الذي كان يمر عليه في الدكان كل يوم و يجرب له كل عود بعد الانتهاء من صنعه، كما أهدى آلات عود لكل من الهادي رحماني، عمار شقلب، بابا عبايد، العربي بلبجاوي و غيرهم من الفنانين الذين كانوا يترددون عليه في محله الكبير في عمق حي السويقة ، أين كان ينظم في نهاية كل يوم في حوالي الساعة الرابعة مساء " قعدة فنية " تعزف فيها الآلات الموسيقية و تغنى فيها أجمل قصائد المالوف الأصيلة. أخبرنا أن والده كان يعزف أيضا على الدربوكة و يرافق بعض أصدقائه الفنانين في الجوق في الحفلات و المهرجانات بالإضافة إلى السهرات الفنية التي كانت تنظم في الفنادق ناهيك عن " القعدات "التي كان ينظمها هو في آخر اليوم بعد الانتهاء من عمل النجارة و خاصة " مقيل" يوم السبت في بيته ، حيث كان ينظم في فترة القيلولة عشية كل يوم سبت حفلا صغيرا يدعو إليه أصدقائه المغنيين و العازفين ، و "كنا أنا و إخوتي نستمتع بهذه الأمسيات في عطلة الأسبوع" ، كما قال . و أنه و إخوته الإحدى عشر كبروا في هذا الجو الفني الجميل و ترسخ لديهم حب الفن خاصة بالنسبة له ، لأنه الوحيد الذي اختار المحافظة على مهنة والده التي تعلمها أكثر في متقن خزندار أين عاد لتدريس النجارة فيها بعد التخرج ، قبل أن يركز على ممارسة حرفته المحبوبة التي تعلمها في دكان والده الذي بقي 17 سنة مغلقا بعد وفاته ، قبل أن يقرر إعادة فتحه من جديد بعد أن تحصل على موافقة كل الورثة، ليصبح محل النجارة حصته من إرث أبيه. ويحمل اليوم العديد من الذكريات الجميلة المرتبطة بوالده، خاصة ما يتعلق منها بصناعة آلة العود التي استفاد منها الكثير من الفنانين و هواة الموسيقى اللذين أكد لنا أنهم لازالوا يترددون عليه بكثرة لطلب آلات جديدة، و أغلبهم فنانين و هواة العزف على آلة العود ، و من بينهم الكثير من الفتيات الطالبات في "الكونسرفتوار" أو الهاويات للموسيقى، غير أن الوقت و الصحة لا يسمحان له بذلك خاصة بعد إصابة يده اليسرى ، و عجزه عن القيام بالعديد من الأعمال التي تتطلب جهدا عضليا و دقة كبيرة في الإنجاز حسب القالب الخشبي الذي صنعه والده تبعا لمقاييس العود العربي المعمول به في المالوف القسنطيني. و يروي أن والده لاحظ ذات مرة في مهرجان تيمقاد أن دقات العود على المسرح الروماني بدت مختلفة ، و وقع صوتها كان جميلا ومميزا ، فخطرت له فكرة إضافة حفنة رمل من أرض الموقع الأثري داخل عود صنعه لأحد العازفين أصحابه و طلب منه أن يجربه مرة أخرى ، و حينها سمع نفس دقات الصوت التي سمعها على المسرح الروماني. و يتأسف الحاج محمد بلوادفل الذي رغم إحالته للتقاعد كمعلم سابق للنجارة في التكوين المهني منذ عشرين سنة و مازال يعمل بجد في دكانه كل يوم بنفس الإصرار و العزيمة، على فقدان بعض آلات العود التي صنعها بناءا على طلب بعض أصدقائه الفنانين الذين لم يتمكنوا من الاحتفاظ بها بسبب الضياع أو التلف، كالحاج محمد الطاهر الفرقاني الذي أضاع العود الذي وهبه إياه في أحد أسفاره إلى العاصمة للمشاركة في مهرجان موسيقي، و الحاج صالح رحماني الذي أتاه باكيا ليخبره بأنه فقد العود الذي وهبه إياه بسبب ابنته التي شحنته مع الأمتعة في صندوق الطائرة فتحطم بداخله ، مما جعله يشعر بخيبة الأمل لأنه كما يقول " عدا الفنانين، لا يقدر الجميع قيمة العود الفنية و المعنوية " و يأمل من جهة أخرى أن يحتفظ الباقون بالآلات التي صنعها لهم كالمطرب سليم الفرقاني و مديرية الحرف و الصناعات التقليدية التي أكد انه أهداها عودا من إنجازه مؤخرا. و الكثير من الأشياء المحبطة هي التي تجعل ابنه " برنكي" الذي مارس مثله نشاط النجارة بحب في دكان جده ، لا يسعى لتعلم حرفة صناعة العود التي يرى بأنها في الزوال و لم يعد لها مكانة مع أعراس "الديسك جوكي" و اختفاء متذوقي الفن الأصيل من " السماعية " كما يصفهم الحفيد الذي يجسد صمود المحل و المهنة للجيل الثالث على التوالي . وهو يقول أن مهنة النجارة تعاني كثيرا هذه الأيام بسبب عدم اهتمام المسئولين بها و غلاء المواد الأولية المستعملة فيها ، و خاصة انتشار المتاجر التي تبيع الأثاث المستورد من الخارج ، الأمر الذي يحطم النجار كثيرا : " فكيف مع كل هذا أتعلم صناعة العود التي تأخذ مني الوقت و الجهد و تتطلب مواد أولية غير متوفرة ، يجب البحث عنها في مدن أخرى كخشب الكاجو و السادر الذي يحضره الوالد عادة من مدينة خنشلة ، و يتحمل عبئ نقله و ثمنه على حسابه الخاص دون أن يتلقى أي مقابل مادي عنه " . في عمر الستة و السبعين سنة مازال يضع الحاج محمد لمساته الحرفية و الفنية في كل الأعمال المنجزة من قبل ابنه برنكي ، في الورشة التي افتتحت لأول مرة سنة 1930 ، و لسان حاله يقول أن العمل هو الحياة ، و أنه لا يسعه التوقف عن النهوض كل يوم باكرا و النزول للمحل قرب منزله بالسويقة و العودة إلى البيت في آخر اليوم ليلاقي أحفاده الخمسة . مِؤكدا أنه حاول في الكثير من المرات تقديم طلبات لمتقن خزندار لكي يرسلوا له طالبا أو اثنان يساعدونه في عمل الورشة و يتعلمون في نفس الوقت حرفة النجارة دون رد . معربا في الأخير عن استعداده لتلقين صنعة العود لمجموعة من الممتهنين إذا تكفلت الدولة بذلك، لأنه يرى بأنها خسارة كبيرة ألا يعلم هذه الحرفة لغيره قبل أن يغادر الدنيا.وقال أنه يشعر بالفخر الكبير عندما يأتيه أحد الفنانين أو الهواة الذين يقدرون قيمة العود الذي يصنعه و يطلبون منه صنع أو تصليح هذه الآلة الأصيلة ، كما هو حال أحد المهاجرين بفرنسا ، الذي ينتمي لإحدى العائلات العريقة بقسنطينة ، و الذي جاء إلى دكانه بعد أن شاهده في حصة تلفزيونية على قناة " كنال ألجيري " و هو يتحدث عن القالب و عن الحرفة و أخبره أنه اشترى مؤخرا "عودا عربيا" من فرنسا و يرغب كثيرا في إحضاره له لتصليحه ، مشيدا بأهمية هذه الحرفة النادرة بمدينة قسنطينة .