حاورته/ حسناء شعير اللغة العربية مهملة في الجزائر مقارنة ببقية اللغات المعتمدة أمميا يقف الأديب والباحث بالمركز الجزائري العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية الدكتور جمال بلعربي في هذا الحوار، عند واقع اللغة العربية اليوم مقارنة بباقي اللغات، وعند تجربته الأدبية وفي مجال النشر. كما يعرج على مهام واختصاصات المركز الذي يضم عددا من الباحثين يشتغلون على إشكاليات علمية تتعلق ببعض ظواهر اللغة العربية. * انتقلت خلال تجربتك الأدبية بين الشعر والقصة دون أن تثبت على لون واحد، فأي الغرضين يستهويك؟ في الواقع.. تجربتي مع الكتابة لم تتجاوز كتابين منشورين وكثيرا من الأحلام والمشاريع المعطلة والمؤجلة والموجعة في الآن نفسه، وأنا أعتبرها تجربة حاصرتها الخيبات وهي بعد في بدايتها.. لقد تم تضييع مجموعتي القصصية "تماثيل المرمر" سنة 1993 ولم أتمكن من نشرها إلا في عام 2007 بفضل بعض الكرم من مشروع "الجزائر عاصمة الثقافة العربية".. يعني أن النشر كان فقط لتصفية بعض الحسابات مع الماضي المتخلف، ولم يكن بداية لمشروع أدبي طموح واضح المعالم كما تمنيته في بداية التسعينيات، حيث كانت أسئلة الكتابة تطرح رغم أنف القتلة وكل أنواع الحثالة، وكانت الأحلام، رغم البؤس في كل شيء، بكبرياء ترسم معالم المستقبل.. لقد أدرك بعض الكتاب الجزائريين ذلك في وقته وكانت النتيجة تشردا إضافيا عانيته، حتى كرهت كل ما يتعلق بالكتابة. طيب.. ماذا عن مجموعتك الثانية؟ بالمناسبة نفسها أصدرت مجموعة شعرية بعنوان "الكتابة بالذات" حاولت من خلالها أن أطرح بعض الأسئلة حول علاقة الكاتب بالنص وبأدوات الكتابة من جهة وحول علاقته بالعالم من حوله. ولا أعتقد أنها تجربة كتابة شعرية محترفة، بل أنا أتمتع بكتابة الشعر من باب الهواية، ولست مهتما بتطوير تجربة شعرية خاصة، فهذا عمل يتطلب كثيرا من الوقت والتضحيات، وأنا ليس لي ما أضحي به من أجل القصائد. أنا أستغل معظم وقتي في قراءات متعلقة بعلوم اللغة وبالسيميائيات وأحاول أن أساهم مع العديد من الباحثين العرب في استيعاب الفكر اللساني المعاصر ونقله إلى الثقافة العربية من خلال ضبط المفاهيم وتعريبها؛ ومع ذلك تتملكني رغبة قوية بين الحين والآخر لأدير وجهي عن العالم كله وأغرق في نصوص حالمة حتى لو كان الثمن ذهابا بلا رجوع. هل يمكن أن نجد الكاتب داخل إبداعاته، بمعنى هل يصور الكاتب حياته داخل ما يكتبه؟ نعم، بكل تأكيد، حتى لو كان يكتب نصوصا من الخيال العلمي، فطالما أن الكتابة خيالية إبداعية، لا بد أن تتسلل تفاصيل تجربة الكاتب الشخصية بين السطور، بل كثيرا ما تكون هي السطور نفسها. لكن هذا لا يعني أن كل من يكتب قصة أو قصيدة يحكي سيرته الذاتية. إن السيرة الذاتية نوع أدبي مستقل بذاته، ويعلن عنه على غلاف الكتاب وهو نوع بضوابط معروفة، لكن الكتابة الإبداعية تجربة ذاتية ولا يمكن أن تفرغ من حمولتها الذاتية هذه. إن الكتابة مغامرة جميلة تحدث بأدوات كاللعب وهي بعد من أبعاد حياة الكاتب، مفتوح على كثير من الحرية واستثمار المخيال إلى أبعد الحدود؛ لذلك لا يمكن أن نتصور الكتابة سجينة التجربة الشخصية.. هي تجمع بين ما يعيشه الكاتب وما يحرم منه وما يتمناه وما يتأسف عليه وما يعيشه الذين من حوله وما يحلم به لنفسه وللآخرين. هل يحتاج الكاتب دوما للمعاناة حتى يكتب؟ هذه نظرية مفلسة، تجاوزتها تصورات الكتابة والنقد والقراءة.. الكاتب يحتاج إلى حرية، يحتاج إلى قوة شخصية ويحتاج إلى قرار شخصي بأن يكرس حياته لمغامرة إنتاج النصوص. المرأة في كتاباتك غير واضحة المعالم ودورها ثانوي في أشعارك وقصصك خاصة.. لماذا؟ هذا حالها في المجتمع، وفي مختلف مجالات الحياة. أما عن كتاباتي فلا أعتقد أن هذا السؤال قد شغلني بشكل خاص. وأنا غير مقتنع كثيرا بالقراءة السيكولوجية للنصوص.. أفضل أن تكون القراءة اجتماعية ووجودية؛ فالكتابة في اعتقادي ليست فرصة للكاتب لإسقاط خيباته وإزعاج القارئ بها. الكتابة لعبة جميلة يتبادل فيها الكاتب مع القارئ الأدوار بشكل مستمر؛ فالكاتب يحاول أن يصور القارئ وهذا بدوره يحاول فهم الكاتب لكن القارئ هو الآخر كثيرا ما يماس القراءة بالإسقاطات الشخصية. أنا على العكس مما تقولين، فأنا من دعاة تحرر المرأة إلى أبعد الحدود، ولا أفوت فرصة لأدعو الجزائريات إلى اكتساح جميع الساحات السياسية والنقابية والرياضية والثقافية والاقتصادية.. وعدم ترك بلادنا للمتخلفين يعبثون بها. فعندما تحتل المرأة مكانتها، بل أمكنتها في الحياة الاجتماعية سيختفي كثير من السلوكات المتخلفة وسيتشكل سلم القيم بصورة أكثر إنسانية وأكثر حضارة. على المرأة الجزائرية أن تحطم الصورة النمطية الكاذبة والمخادعة التي تريد وسائل الإعلام ومختلف المنظومات في بلادنا أن تكرسها لها وأن تبقيها حبيسة داخلها. هي صورة المغبونة المغلوبة على أمرها التي يجب أن تكون دائما ذيلا لرجل ما. هذه صورة حقيرة ويجب أن تتحرر منها المرأة بمبادرتها الشخصية، الفردية والجماعية، في مختلف مجالات الحياة. والقوانين في صالحا وفئات مهمة من المواطنين يرحبون بذلك. فلتتوقف إذن عن البحث عن كاتب بسيط مثلي يتيح لها هامشا أوسع في كتاباته. لعله هامش لم تجده كتاباتي نفسها. ألا تظن أن إبداعاتك قليلة بالنظر إلى تجربتك الأدبية؟ قليلة جدا، وربما يسعفني الحظ الآن لأعود إلى الكتابة مجددا. كيف تقيم تجربتك في مجال النشر؟ كانت حلما من أجمل الأحلام، لكن "الحثالة" كانت له بالمرصاد ككل شيء جميل في هذا الوطن. كانت تجربة خدمت بها مجموعة من الكتاب المقهورين منذ أكثر من عشرين سنة. تجاهلتهم جميع المشاريع، فاغتنمت فرصة عاصمة الثقافة العربية لأنشر أعمالهم، واكتشف القراء والناشرون أسلوبا جديدا محترما في مهنة النشر واكتشفوا نصوصا ذات أهمية عالية لم يكن الكثير من المهتمين بالحركة الأدبية في الجزائر يعرفونها. وتشجع إثر ذلك عدد كبير من الزملاء للانخراط في مشاريع نشر محترمة هي مستمرة ومنتجة إلى الآن وفي تحسن مستمر. وهو ما لم يكتب لتجربتي، للأسف، لكن الحلم لم يتوقف. ربما تتغير المكانة والأسماء والأطر القانونية، لكن الخبرة التي اكتسبتها من تلك التجربة، بكل تأكيد، هي مكسب أعتز به. على ذكر النشر، هل ترى للكتاب مستقبلا في ظل النشر الإلكتروني؟ يجب أن نتعلم كيف نتقبل التطور التكنولوجي الحاصل في حياتنا دون خوف على المستقبل ودون خوف منه؛ فالكتاب الورقي تجربة خاضها الإنسان خلال قرون من التاريخ تطلبت وجود تلك التقنية في توصيل المعرفة وتوصيل الكتابة بصورة عامة. والآن وبفضل الكتاب الورقي وغيره من تقنيات توصيل المعرفة، استطاع الإنسان نفسه أن يطور تقنيات جديدة، رقمية وغير رقمية لتحقيق الغرض نفسه بشكل أفضل وأكثر تماشيا مع قدرات الإنسان ومع طبيعته الإنسانية كتواق إلى المعرفة وكمتفاعل معها. لا شك أن هذه التقنيات الرقمية قفزة نوعية في مجال توصيل المعرفة ولا أعتقد أنها تشكل أي خطر من أي نوع على الكتاب الورقي. ولا على القراءة.. يجب أن نجتهد لنستغل هذه الوسائط وتقنياتها أحسن استغلال لتطوير حياتنا وترقية أداءاتنا في مختلف المجالات. لقد اعتقد البعض عند ظهور البث الإذاعي أنه سيقضي على الصحافة المكتوبة، لكن الواقع بين أن الإذاعة ساعدت على انتشار الصحافة المكتوبة بشكل أوسع، واعتقدوا عند ظهور البث التلفزيوني أنه سيشغل الناس عن الوسائط الأخرى، وتبين بعد ذلك أن هذه الوسائط حين تظهر، لا تنافس الوسائط الأخرى في الجمهور نفسه، بل هي تصنع جمهورها الخاص وتزيد من عدد المتلقين للمادة الإعلامية والثقافية بصفة عامة. وأنا أرى أن الوسائط الرقمية تساعد الآن على الترويج للكتاب الورقي وعلى تفعيل تأثيره وتساعد على توصيله بصورة أسرع.. لماذا لجأت إلى شخصية من الدنمارك لتكون موضوع رسالة "الدكتوراه".. هل معنى هذا أنه لا توجد نماذج في الوطن العربي؟ حين اخترت موضوع الرسالة لم أكن أعرف شيئا عن الدنمارك، بل لم أكن أستطيع تحديد موقعها بدقة على الخريطة. واخترت المفكر اللساني "لويس هيلمسلاف" موضوعا فقط لأنه مغيب عن المكتبات العربية ولم يسبق أن تناولته الدراسة، في حدود علمي، رغم أهمية نظريته وأطروحاته في اللسانيات العامة. كان مشروعي أن أسد فراغا في المكتبة العربية وكان الخيار أن أستعمل الأدوات الأكاديمية. ولم يخب الظن، فقط تمتعت بإعداد البحث وتعلمت كثيرا وطورت مهاراتي في اللغتين الفرنسية والإنجليزية لأن مراجعي كلها كانت بهما. كما تعلمت أن المدرسة النحوية واللسانية الدنماركية تتعامل باحترام كبير مع المدرسة النحوية العربية القديمة. وبعد أن ناقشت الرسالة زرت جامعة أرهوس الدنماركية حيث يوجد تلاميذ هيلمسلاف فاكتشفت مجتمعا في منتهى الرقي والحضارة.. مجتمعا رائعا بكل المقاييس.. قيمته الأولى هي كرامة الإنسان. معظم كتاباتك كانت في بداية حياتك إلا تستحق المرحلة الحالية أن تكتب عنها؟ لديّ مشاريع أشتغل عليها، أجلتها بسبب انشغالي الأكاديمي، والآن لم يعد لدي أي عذر. أحاول أن أنتهي من بعض الترجمات الجاهزة للنشر، وبعض الكتابات النقدية، الجاهزة أيضا للنشر. هل يعمل مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية الذي أنت تشتغل فيه باحثا دائما على حماية لغة الضاد.. وهل اللغة العربية في خطر حتى نحميها؟ كثيرون يعتقدون أن مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية مؤسسة خدمات عمومية مهمتها تحسين الأداء اللغوي للمواطنين؛ لكن هذه ليست هذه مهمته على الإطلاق، إنه مركز بحث ككل المراكز في الجزائر وفي العالم. يضم مجموعة من الباحثين يشتغلون على إشكاليات علمية تتعلق ببعض ظواهر اللغة العربية. مهمتهم الأولى متابعة الجديد في مجالات اختصاصهم وتحسين مستواهم باستمرار وإعداد بحوث حسب اختصاصاتهم الدقيقة في مجال علوم اللغة ويركزون على ما يتعلق باللغة العربية. فهو مؤسسة إلى جانب مؤسسات أخرى مثل مجمع اللغة العربية والمجلس الأعلى للغة العربية، كل حسب طبيعته وإطاره القانوني، تساهم في معالجة الأسئلة المتعلقة باللغة العربية وفي الوقت نفسه يحتضن الباحثين الذين اختاروا أن يكرسوا حياتهم للبحث في علوم اللغة. أما عن اللغة العربية، فهي في حاجة إلى دراسات ودراسات يشارك فيها مئات بل آلاف الباحثين على المستوى العربية لترقية إلى مستوى تصبح فيه قادرة على التواجد بقوة عبر الوسائط الرقمية وقادرة على سد الاحتياجات المعرفية للدارسين في مختلف المستويات والأعمار والمجالات.. اللغة العربية في حاجة إلى قاموس شامل لم ينجز بعد وفي حاجة إلى تأسيس لسانيات خاصة بها وبقضاياها. اللغة العربية الآن مهملة بالمقارنة مع بقية لغات هيئة الأممالمتحدة. أين أنت من نشاطات "المؤسسات الثقافية" في الجزائر؟ الحثالة التي تحتل تلك المؤسسات لها مقاييسها وغرابيلها ويبدو أنها لا تملك صدرا يتسع لي. خاصة النوعية المتخصصة في إغلاق المؤسسات وتتفيهها وإفراغها من محتواها. هي حثالة تعمل بقاعدة "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة" وتستعملها في كل المجالات، وهي ترجمة لما تشهده بلادنا من فساد. يرى البعض أنك على قدر واسع من الثقافة مما يؤهلك لتولي منصب في إحدى المؤسسات الثقافية في الجزائر.. ألا يستهويك الأمر؟ المناصب لها أصحابها والمتفرغون للسعي إليها والتضحية من أجلها. وأنا، "يكثر خيرهم" عندما يتركونني "ترانكيل" وليشبعوا بمناصبهم حتى التخمة. ألا ترين أن المؤسسات الثقافية في بلادنا الآن أصبحت مرتعا للفاشلين يعملون على إغلاقها وتحطيمها. هل هذا أمر مقصود؟ أنا أتعجب مما يحدث. أتصور أن مناصب في بلادنا تستهوي الكثيرين وهم مساكين يقفون في طوابير طويلة ولسنوات عديدة يمسحون الأحذية من أجلها. أما أنا فلا أسعى ولا أتملق ولا أعد بالمشاركة في الفساد، فمن سيهتم بأمري. أنا مواطن "خدام حزام" قد أسيء كثيرا إلى الفاسدين لو توليت أي مهمة.. وأنتمي إلى فئة من المواطنين غير مسموح لهم بخدمة وطنهم ومجتمعهم إلا في حدود ضيقة جدا.